الغنى الاصطلاحي والتنوّع المرجعي في كتاب "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات"([1])_( أحمد العياشي )


                      

تقديم
   سيكون من باب الزعم والادعاء القول إن بالإمكان إنجاز قراءة علمية عميقة لكتاب "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات" دون تملك زاد معرفي وعدة منهجية، وإلمام بمختلف العلوم ذات الصلة قديمها وحديثها، ودون تكريس وقت كاف للقراءة وإعادة القراءة من أجل إدراك الأسئلة التي وجهت المؤلِّف، والمرامي التي يسعى إليها والرهانات التي وضعها نصب عينه. إن كتابا في مستوى مؤلَّف " التأويلية العربية "، لا شك أنه تطلب من كاتبه جهدا فكريا ومنهجيا، ولا شك أنه أنضج فصوله وقضاياه على نار هادئة حتى استوى إنتاجا معرفيا تلقاه المتلقون العارفون بميدانه بصفته إضافة في بابه. ولا غرو والحالة هذه أن يلتفت إليه أساطين البلاغة والتأويل أمثال: الدكتور محمد العمري، ولا غرو أن يحظى بإجماع أعضاء اللجنة المحكمة مع جهلهم بصاحبه الأمر الذي يزيد الحكم له مصداقية؛ ذلك أن حكمهم كان للمعرفة والمنهج وللجدة في الطرح والصرامة العلمية؛ وتلك أمور يقف عليها القراء. أما من يعرف المؤلِّف، فلن يفاجئه ما أنتج؛ فقد كان في الجامعة في تسعينيات القرن الماضي أحد الطلاب البارزين، كان بحاثة شغوفا بالعلم والبحث، وبانت عليه منذ ذلك الوقت أمارات واعدة في مجال البحث العلمي. وجاء كتاب " التأويلية
العربية " ثمرة من ثمار ذلك.
   ويمكن للقارئ أن يجد مداخل عدة لقراءة هذا الكتاب، مداخل تشكل نقطا مضيئة فيه، وتتراوح بين الطرح النظري، والقوة الاقتراحية، والغنى المصطلحي، وعلمية اللغة وشعريتها في الآن نفسه. إن ما يستخلصه الناظر والمتأمل في الكتاب هو كونه إضافة إلى البحث البلاغي، وإلى مبحث التأويل، ومن النقط المضيئة التي أعطت للكتاب قيمة، وأحلته موقعا في مجاله ما يأتي:
1 - غنى المرجعيات وتنوّعها
   إن من مكامن قوة كتاب " التأويلية العربية "، المضمون النظري الذي استند إليه المؤلِّف وعيا منه أن المبحث يستدعي تعميق النظر في السائد قراءة وفهما، ومجادلته من أجل توفير سند معرفي يمكنه من الإضافة والاقتراح، ووعيا منه أن الجسور المفتوحة بين مختلف الثقافات تتطلب منه المزاوجة بين العربي وغير العربي والقديم والحديث لأن التأويل " قضية قديمة وجديدة في نفس الوقت"([2])، وهكذا حضرت الممارسة القرائية التأويلية العربية القديمة خاصة ما له صلة بالعلوم الدينية التي لا يمكن إغفالها عند الحديث عن التأويلية العربية، واختار المؤلِّف " الكشاف " للزمخشري و" تفسير القرآن العظيم " لابن كثير.  وحتى لا تكون مسألة التأويل خاصة بعلم معين،  أورد قراءة العكبري للامية أبي الطيب المتنبي معزيا سيف الدولة. والغاية من كل ذلك توضيح" قوة البلاغة التأويلية المبنية على التساند "([3]) ومن أجل توضيح" الأسس المعرفية المتحكمة في ذهنية المؤوِّل القديم"([4]) الذي ليس بالضرورة هو المفسر للكتاب المقدس. أما المرجعيات العربية الحديثة التي حاورت بدورها المقترحات الغربية في المجال، فقد حضر الدكتور محمد مفتاح حضورا لافتا بكتبه من " تحليل الخطاب الشعري" إلى "المفاهيم معالم" مرورا ب- " دينامية النص " و" مجهول البيان " و"التلقي والتأويل " و" التشابه والاختلاف"؛ ذلك أن في مشروع الدكتور محمد مفتاح مناقشة لمسألة التأويل وضوابطها وإستراتيجيتها مما لا غنى عنه لأي باحث في هذا المجال، وحضرت أسماء أخرى  كالدكتور ناصر حامد أبي زيد والدكتور مصطفى ناصف والدكتور محمد عابد الجابري. وللمؤلِّف طبعا أسباب وجيهة في اختياره، وفي الجانب الذي اختاره لدى كل واحد، لكن الذي لا شك فيه وعيه بهذه المرجعيات. وفي علاقته بالمراجع الغربية فلم يكن الكاتب ناقلا أو مطلعا عبر وساطة وإنما عاد إلى المصادر الفرنسية والإنجليزية، وفي ذلك ما يمكنه من الاتصال المباشر لإدراك  تقاطعات تلك الإسهامات وتعارضاتها وهذه المزاوجة من المؤلِّف، إنما لغاية وضع أسس صلبة لوجاهة الاقتراح الذي بنى عليه عمله.
 2 - الغنى المصطلحي
   من ميزات كتاب " التأويلية العربية " قيامه على مجموعة من المفاهيم ذات حمولة اقتراحية شكلت إحدى نقط قواه. وقد عمل المؤلِّف على توضيح المقصود بها منذ ما سماه مفاتيح التقديم، وخلال الفصول كما خصص لها في الأخير فهرسا موضحا. وإذا كانت المصطلحات التي وضعها المؤلِّف لتلك المفاهيم ليست كلها منحوتة، فإنه شحنها بمفاهيم جديدة؛ فكلمة "التفسير" غير مجهولة بل تناولها الباحثون خاصة في علاقتها بالمصطلحات القريبة منها كالشرح والتحليل والتأويل نفسه متحدثين تارة عن التداخل وتارة عن فروقات دقيقة([5])، غير أن الباحث ربط التفسير بمجموع العلوم المرتبطة بالقرآن واعتبره عدة المؤوِّل ومفتاحه المرجعي. هذا علاوة على المفاهيم التي شكلت أساس اقتراحه وأطروحته كالتساند والتقابل والارتداد والامتداد، ويمكن لجانب المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بها أن تشكل لوحدها موضوعا لدراسة حول الكتاب.
3 - لغة الكتاب
  إن مؤلَّفا في قيمة كتاب " التأويلية العربية " من حيث مضمونه وغناه المعرفي والتنظيري والمنهجي لا يمكن أن يتم إلا بما يماثل ذلك من حيث الأدوات؛ وهكذا جاءت لغة الكتاب متقنة، تقريرية انسجاما مع الطابع العلمي للبحث، وشعرية بيانية تصويرية ممتعة دون الوصول إلى حد الإخلال بالشرط العلمي.
 ويمكن الاستناد إلى أدلة من الكتاب لملاحظة ما يأتي:
1 - الوضوح في أداء الأفكار والتعبير عنها، يكون هذا عندما يعرض الباحث أفكار الآخرين لتوضيحها أو الاستنتاج منها أو مناقشتها؛ ففي الفصل الثالث مثلا، أورد آراء المسهمين العرب أمثال: الجاحظ وقدامة بن جعفر وغيرهما وآراء الغربيين أمثال: يول وهيرش وناقشها وعلق عليها باللغة التي يقتضيها المقام.
2 - التصويرية خاصية جلية في مستهل الكتاب حتى إن من نظر في تلك الجمل سيعد الكتاب إبداعيا أو من الخواطر. وماذا بوسع القارئ أن يقول أمام جمل مثل: " قل يا أبا الأنوار... كم مسحوا عن وجهك طهر المراتب الكمالية "، أو مثل: " لا عليك الآن أن تشرب هذه الكأس الصافية "...وكذلك في بداية المفتاح الأول حيث شخص النصوص قائلا: " تأتينا النصوص على استحياء، ونأتيها متعجلين لحظة اللقاء "، وقل الشيء نفسه في ختام الكتاب.
3 - التفاعل مع خطابات ونصوص، والتناص معها: لا يخطئ العارف بالتراث العربي تنوع الخطابات التي حاورها المؤلِّف من حيث لغته، فهناك النفحات الصوفية والتي تبدو من ألفاظ وعبارات كالروح، السر، الكأس الصافية، حبال العناية، ببابك أسفاري، يقين نوراني...وهناك الاقتباس من النص القرآني، ففي المفتاح الأول قوله: " غير أن منها ما يمشي سويا، وما يزحف على بطنه، منها ما يمشي مكبا على وجهه ". وقوله:
" سار به في جرف هار "...
وبعد:
   إن كتاب " التأويلية العربية " حافل بمختلف العناصر التي تجعله قمينا بأن يحظى بالتكريم والإشادة، وأنه أضاف إلى البلاغة الشيء الكثير، وسيسهم في رد الاعتبار للبلاغة باعتبارها ملتقى العلوم، وباعتبارها علما كليا، وعلما لا يبلى، لا ينتهي إلا ليعود في لباس جديد.([6]) وإذا كان مفهوم التساند المقترح يسمح لمختلف العلوم بالاشتغال والإسهام في تأويل الخطابات، فان الكتاب لم يترك الباب مفتوحا للفوضى ولا مغلقا على مجالات لها ما تفيد به وإنما هناك ضوابط وشروط،" فالتأويل ليس عملية اعتباطية بل إن شروطا تحكمه"([7]). إن التأويل مشروط إذا باللغة وبثقافة المؤوِّل وآفاقها... وصحيح أن مسالكه متشعبة، ولكنها منظمة، ودليل ذلك الخطاب التفسيري، فرغم العناصر المتشابكة، هناك نظام دقيق يشتغل"([8]). ولعل من أهم فوائد موضوع التأويل انصرافه إلى المحتمل، فهو بذلك مغر لأنه يقر بمشروعية الاختلاف.





[1]  - ألقيت هذه المداخلة في حفل تكريم الأستاذ محمد بازي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بإنزكان بعد فوزه بجائزة المغرب للكتاب لسنة 2010، عن كتابه: "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات".
 [2] - نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط.2، 1992، ص.14.
  [3]  - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م، ص. 18.
 [4]  - نفسه، ص. 19.
[5]  - انظر دراسة الحبيب شبيل في: "من النص إلى سلطة التأويل" ضمن: " صناعة المعنى وتأويل النص"، أعمال الندوة التي نظمها قسم العربية من 24 إلى 27 أبريل 1991، منشورات كلية الآداب منوبة، جامعة تونس، 1992، ص.454.
[6]  - محمد العمري، الحجاج مبحث بلاغي، فما البلاغة؟، ضمن المؤلَّف الجماعي: الحجاج مفهومه ومجالاته، دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، إعداد وتقديم: حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن،ج.1، ط.1، 2010، ص.21-22.
[7]  - الحبيب شبيل، " من النص إلى سلطة التأويل "،  م.م، ص.448.

[8]  - أنور محمد، الموقع الإلكتروني "مسارات".

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: