تدريـــس القصـــــة من منظـــور تأويلــي تقابلـــي(الجزء الثاني)




عبد العزيز بلفقير

تقابلات النص، مدخل للفهم وبناء المعنى:
لنتساءل معا: ما الذي جعل هذه القصة قابلة لقراءة رمزية متقابلة؟
         لعل أي قارىء للنص سيتفق على أن ما يتيح هذه الإمكانية هي الطاقة التعبيرية والرمزية التي يحفل بها النص، حيث جعل الراوي من المبارزة حدثا رئيسا يكشف من خلاله صراع شخصين وسط غابة موحشة تغيب فيها كل القوانين، شخص يرغب في المبارزة والآخر لا يرغب بتاتا في هذه العادة القديمة، أو في هذا الفعل المشين، لكنه وجد نفسه مرغما على المبارزة إن كان يريد البقاء على قيد الحياة، بل وللإبقاء على خطيبته بجانبه وأصدقائه الذي يرافقونه، فالمبارزة ترمز إلى الشرف الذي لابد من صيانته ولو أريقت بسببه الدماء، غير أن بطل القصة يشك في مدى قدرته على المبارزة، وغير متأكد أن خطيبته كانت تعرف هذا العدو من قبل. وساوس حاول البطل أن يقنع نفسه من خلالها بأن بلا جدوى من المبارزة، غير أنه فكر أن ذلك سيكلفه فقدان الخطيبة، فهو أحق بها من غيره، لأنه خطيبها الشرعي، فبارز عدوه ببسالة تعجب منها كل الحاضرين، فهو لم يبد مثل هذه الشجاعة من قبل، غير أن الشجاعة وحدها لا تكفي في مثل هذه المواقف، ليتلقف ضربات عنيفة وقوية من خصمه، استيقظ على إثرها من نومه خائفا مذعورا. ليكون النص كله تقابلا بين الحلم والواقع.
         إن رمزية التأويل التقابلي تجعل من رمزية القصة تبلغ ذروتها، دون أن نقع في زيغ التأويل إن صح التعبير، لهذا أتاح لنا التقابل أن النص يبرز قيمة عزيزة من القيم العربية الإسلامية، إنها قيمة الشرف الذي لا يجب أن يمس، فلا يسلم الشرف الرفيع حتى يراق على جوانبه الدم.
فالمواجهة والوسواس والشك، كلها أشياء تبين مدى تشبث الإنسان العربي بهذه القيمة، وساوس تمثلت في حلم قض مضجع بطل القصة منذ البداية حتى النهاية، غير أن النهاية تحيل إلى استمرار حالة الخوف حتى في حالة اليقظة.
وبالنظر إلى بناء الأحداث في هذه القصة القصيرة، والوقوف على كل تقابلاتها، يمكن القول إنه قد تم عرضها وفق نظام تقابلي، تتقابل فيه البداية مع الوسط، والوسط مع النهاية، والنهاية مع الوسط والبداية، وفق الجدول التالي:
البداية
وجد البطل نفسه في موقف حرج، و أن شرفه سيهان، إذا هو لم يقبل فكرة المبارزة.





الوسط
-       البطل يرى أنه لا جدوى من المبارزة لأنها عادة قديمة ولم يعد معترفا بها مطلقا.
-       عدول البطل عن فكرته لأن ذلك سيجعله جبانا أمام الخصم.
-       تذكر البطل أنه تعلم المبارزة مع أخته الصغيرة وأنه كان ينتصر عليها دائما.
-       الانسحاب بالنسبة للبطل يعني تخليه عن الخطيبة، فهو أحق بها من غيره، إنه خطيبها الشرعي.
-       وجود البطل بين خيارين: إما أن ينازل الخصم، وهذا قد يؤدي به إلى الهلاك، أو ينتصر، والانتصار لا أمل له فيه مطلقا.
-       اقترح البطل على صديقه فكرة الهرب لكنه لم يشر عليه به مطلقا، وأنهم سيقتلونه إن فكر بذلك.
-       غزت قلب البطل وساوس وظنون بأن تكون لخطيبته علاقة بالخصم، وإن لم تكن تحبه ستفعل بعد أن يغلبه، مما جعله يغير ويفكر في المواجهة.
-       حمل البطل للسيف والتلويح به معلنا عن المواجهة، شجاعة لم يشاهدها أصدقاؤه من قبل.

النهاية
دخول البطل مع الخصم  في مواجهة سمع فيها صليل السيوف، لكن الشجاعة وحدها لا تكفي، ليتلقى ضربات من خصمه. وعلى حين غفلة كان البطل يصيح صيحة مدوية، استيقظ على إثرها من نومه فزعا، وهو يلعن الدون كيشوت وطواحين الهواء.
وبهذا يكون التقابل بين البداية والوسط والنهائية منفذا لجعل أحداث القصة منتظمة في ذهن التلميذ \ القارئ، وبالتأويل التقابلي يبني التلميذ المعنى أو المعاني على أسس رصينة وثابتة.
تقابل الشخصيات:
         تتفاعل في هذا النص القصصي مجموعة من الشخصيات، تفاعل جسده التقابل النفسي والاجتماعي، الشيء الذي انعكس على طبيعة العلاقات التي تربط بينها في النص.
تتقابل في هذا المستوى شخصية البطل مع شخصية الخصم أو العدو كذوات، كما تتقابل من حيث نوع الخطاب، وردود الأفعال والمواقف والمشاعر المعبَّر عنها، فالبطل هنا في مواجهة الخصم وجها لوجه، كما أن موقفيهما من المبارزة مختلفان، البطل يعتبر المبارزة عادة قديمة أو مجردة فكرة لا ينبغي أن يبلغ معها الإنسان التعرض للهلاك، بينما يعتبرها الخصم ضرورة لابد منها. كما تختلف مشاعرهما، فإذا كانت مشاعر البطل تمتزج بالخوف حينا وبالشجاعة حينا آخر، فإن الخصم لا يعرف لا الشفقة ولا الرحمة، همه فقط هو المبارزة وجعل البطل في رحى المواجهة. وهذا ما يصطلح عليه بتقابل التحاور في نظرية التأويل التقابلي.
ويمكن أن نقابل أيضا بين الشخصيات باعتبار التقسيم الذي يذهب إلى وجود شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية، وهذا ما سنبينه فيما يأتي:
الشخصيات الرئيسية:
شخصية البطل: وهو بطل الرواية يسعى دائما في الدفاع عن نفسه وعن شرفه الذي سيهان، شخصية تتميز من الناحية النفسية بالقلق والشك والريبة.
شخصية الخصم\ العدو: وهي الشخصية المعارضة للبطل، تحاول أن تكدر عيشه وتقطع سبيله وتأخذ منه خطيبته إن هو لم يقبل المبارزة، وتتميز من الناحية النفسية بالثقة والرغبة الملحة في مواجهة البطل.
الأصدقاء: شخصيات أرغمت البطل وزادت من همه، لأنها لم تتدخل لترفع عنه هذا الضيم المحدق به، بل أشار عليه أحد رفاقه بأن يقتلوه إن هو لم يبارز الخصم، ووصفهم البطل بالأوغاد.
الشخصيات الثانوية:
يمكن أن ندخل في الشخصيات الثانوية، شخصية الخطيبة باعتبارها لم تتدخل في الأحداث بشكل مباشر، لكن باعتبارها خطيبة البطل أرغمت الأحداث على التنامي والتطور. ويمكننا أن نصفهما بما يأتي:
شخصية الخطيبة: شخصية ثانوية، جعلت البطل يتحفز للمبارزة ومواجهة الخصم بكل ما أوتي من قوة، إنها شرفه الذي سيفقده إن هو لم يقم بمبارزة هذا الخصم العنيد.
وبهذا يكون التقابل قد أضفى على الشخصيات طابعا رمزيا ودلاليا، فهي لا تعدو أن تكون شخصيات من ورق، شخصيات تبين الهم الإنساني المشترك، تبين قيمة الشرف لدى الإنسان العربي.
تقابل الرؤية السردية:
أشرنا فيما سبق إلى أن التقابل قد يحدث بين عناصر ظاهرة في النص، أو بين عناصر ظاهرة وأخرى خفية، يسكت عنها النص ولا يبديها لنا إلا بالبحث عنها. ونشير إلى أن هناك ثلاث رؤى سردية معروفة، وهي الرؤية مع، والرؤية من خلف، والرؤية من الخارج، ولن نقوم هنا بشرحها، بقدر ما سنركز عملنا على الكشف عن الرؤية السردية في النص، وكيف تتقابل مع الرؤى السردية الأخرى.
في هذا النص القصصي تهيمن الرؤية من الخارج، فالسارد ليس شخصية من شخصيات القصة، لأنه لا يشارك في الأحداث، ويظهر في بعض الأحيان بضمير الغائب "وجد نفسه في موقف حرج وأن شرفه سيهان إذا لم يقبل أن يبارزه..."، وفي بعض الأحيان بضمير المتكلم الجمع "إننا لا نستطيع أن نصف بالضبط ما كان يجول في دماغه..."، بالإضافة إلى أنه لا يقتحم دواخل الشخصيات ولا يعرف ما يجري في خلدها،  كما هو واضح في المثال الأخير الذي قدمناه عن ضمير المتكلم الجمع. ولهذا غالبا ما يترك السارد الشخصيات تعبر عن دواخلها "وقال في ذات نفسه..." مما يعني أن الرؤية السردية هي الرؤية من الخارج.
ونشير أيضا إلى أنه داخل الرؤية السردية من الخارج تتقابل مجموعة من العناصر فيما بينها، مشكلة بذلك كونا متقابلا، يمكن أن نبينه في الخطاطة التالية:

وبهذا يمكننا ضمنيا مقابلة هذه الرؤية بالرؤية من الخلف التي نجد فيها السارد مشاركا في الأحداث، يعرف ما يجول في خاطر الأبطال، كما يهيمن فيها ضمير المتكلم، بل وتتقابل هذه الرؤية مع رؤية سردية أخرى، هي الرؤية مع التي يتساوى السارد فيها مع الشخصيات،. غير أننا نتساءل هنا: ما دلالة أن تهيمن الرؤية السردية من الخارج في هذا النص القصصي دون غيرها من الرؤى السردية الأخرى؟ 

بطرحنا لهذا التساؤل نكون قد فتحنا باب التأويل الذي نستند فيه إلى التقابل، أي الانتقال من التقابل إلى التأويل التقابلي. فالشخصيات انطلاقا من هذه الرؤية السردية تكشف عن نفسها (نفسيا، اجتماعيا، فكريا...)، دون أن يتدخل السارد في أمورها، وعدم معرفة ما يجول في خاطرها  يكون لدينا ما يسمى بأفق الانتظار. غير أن التلميذ\القارئ المستند لآليات التأويل التقابلي يمكن أن يذهب أبعد من ذلك، ويربط ما توصل إليه من نتائج تخص هذا النوع القصصي بنتائج التحليل،  فيصل إلى كون هذه القصة تدخل ضمن خانة القص الكلاسيكي.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: