بلاغة التأويل والتقابل البديعي محاولة في التوسيع




د.سعيد العوادي



مفتاح
يتغيا الدكتور محمد بازي من خلال كتابيه الرائدين: " التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات "، و" تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي " الانخراط في منهاجية قرائية جادة وطموحة، تعيد النقاش إلى مفهوم التأويل بتسليط مزيد من الضوء عليه، لكشف ماهيته، وحدود اشتغاله، فضلا عن العمل على تجسير عناصره الداخلية، مع الارتداد به إلى أصوله وينابيعه، وفتحه على النصين الديني والأدبي، في أفق جعله أداة قرائية عابرة للنصوص والتخصصات.
وقد انتهى هذا الجهد التدقيقي والتشريحي بالباحث إلى وضع اليد على ما سماه "بالتأويل التساندي"، بوصفه حقيقة ثابتة في كل تأويل، والذي يعيد الاعتبار للسلط المتحمكة في النص المؤوَّل في صيغة تفاعلية وهي: سلطة السياق، وسلطة النص، وسلطة القارئ.
ولدعم منهاجية التساند وتقويتها، اقترح الباحث استراتيجية التقابل لتكتسب المنهاجية قوة اقتراحية وتركيبية وانفتاحية. وتتحول إلى منهاجية ناظمة تصطلح على نفسها "بالتأويل التساندي التقابلي".
لاشك أن القوة الانفتاحية التي جاء من أجلها التقابل ستصيبه هو كذلك بعدوى الانفتاح، فينعتق عن معناه الجمهوري الذي قيدته به البلاغة القديمة، ليفتح ذراعيه على أفق شمولي موسَّع، مما وسع من تقسيماته الصغرى والكبرى. 
ولا تأتي هذه الدراسة من أجل إبراز مهارتها في تلخيص المنهاجية التأويلية التي اقترحها الباحث
محمد بازي، ولكنها تأتي مكتوبة بجمر التأويل لتفتح النقاش هي الأخرى في قسم من أقسام التقابل الأكثر تعميرا في البلاغة العربية القديمة، وبالضبط علم البديع وهو ما سميناه "التقابل البديعي"، المؤطر للطباق والمقابلة، من خلال مده بروح تأويلية جديدة توسع من دائرة اشتغاله، وتمنحه دفئا يعيد له الحركة بدل بقائه جامدا في أحد الأقبية المقرورة للبلاغة العربية القديمة. مع الإشارة إلى أن توسيع هذا النمط التقابلي إن لم ينخرط في صميم عملية التأويل، فهو على الأقل يشكل عدة تتقوى بها ذخيرة المؤوَّل.


1- التأويل والتأويلية العربية
ينبني جوهر مشروع الباحث محمد بازي على السعي نحو صياغة مبادئ بلاغة التأويل، وإيجاد سلطة قرائية تحترم شروط التعاقد التأويلي احترازا من زيغ فعل التأويل، وما ستتبعه من عواقب وخيمة على المؤوِّل وغير المؤوِّل. فكان لابد من العودة إلى الأنساق التأويلية العربية والغربية التي راكمها الفكر الإنساني لتشريحها واستنطاق مضمراتها.  
وفي اعتقادنا أن الباحث وجد ضالته في النسق التأويلي العربي القديم، وخصوصا في خطاب التفسير وخطاب الشرح. وفي عنوان "التأويلية العربية" ما يزكي هذا الاعتقاد، فضلا عن إحدى خلاصاته بأن "ما في تراثنا من دقة واحتياطات وخصوبة وتنوع، يغنينا عن التعرف على ما عند الغربيين، لكن مع ذلك نستأنس باقتراحاتهم بما يقوي طرحنا وينير سبيلنا"([1]).
وبذلك، يحق لنا أن نتساءل أولا عن حقيقة مفهوم التأويل عند الباحث، ثم عن المبادئ الكبرى للتأويلية العربية.
1-1- في كيمياء التأويل
تجاور مفهوم التأويل مع مفهوم التفسير عند القدماء، مما جعلهم ينقسمون إلى قسمين: قسم رادف بينهما، ملاحظا أنهما يلتقيان عند دلالة جامعة هي البحث عن المعنى. وقسم آخر رسم حدودا واضحة بينهما، معتبرا التأويل يروم (بناء مقصدية المتكلم ويحدد أغراضه من الكلام، بخلاف التفسير الذي يقتصر على ما هو ظاهر من الخطاب)([2]).
مال الباحث إلى الرأي المميِّز للقسم الثاني من القدماء، ليخلص إلى أن بين المفهومين عموما وخصوصا، جاء تعريفه للتأويل على النحو الآتي:" التأويل تفاعل معرفي بين بنية ذهنية وبنية نصية وبنية سياقية مؤطرة لهما، وبنية من النصوص الغائبة والعلوم المرجعية، ولذلك فإنه يحتوي التفسير باعتباره نظرا في الظواهر"([3]).
فالتأويل وفق هذا التعريف، فعل كيميائي تفاعلي تديره بنية ذهنية هي الذات المؤوِّلة، والتي يجب أن تتوافر فيها جملة كفايات كالكفاية الافتراضية والكفاية الموسوعية والكفاية الاستدلالية والكفاية التنسيقية. وكلما نضجت لدى المؤوِّل هذه الكفايات وحصل بينها التداخل الفعال ارتقى المؤوِّل إلى درجة القارئ البليغ، بوصفه "الوضع التأويلي الاعتباري الذي ينتج بلاغة تأويلية حقيقية"([4]).
وتسعى الذات المؤوِّلة في إدارتها إلى التفاعل والتفعيل، أي التفاعل مع باقي البنيات الأخرى للعملية التأويلية من جهة، والتفعيل بربط قنوات تواصل بينهما من جهة أخرى.
وتتشكل هذه البنيات من بنية نصية هي الموضوع المؤوَّل المحمَّل بمعطيات معرفية ورهانات إستراتيجية، ووسيط لغوي غني بذاكرة مفرداته وتعيينات توليفاته وفاعلية مساقاته. وبنية سياقية تؤطر المؤوِّل والمؤوَّل معا، وتتمثل في السياق الخارجي والشرط التاريخي وظروف إنتاج النص وسياقات تلقيه وتداوله. أما البنية الأخيرة، فتكونها مجمل النصوص الغائبة التي تحاور النص المؤوَّل بمختلف أشكال الحوار، بالإضافة إلى العلوم المرجعية من نحو وبلاغة وغيرهما مما يدخل في عدة المؤوِّل.
لاغرو، أن مفهوم التأويل لدى الباحث يتسم بالعمق والشمول والإضافة، مما يعطي دلالة حقيقية غير مفتعلة لضرورة إعادة طرح سؤال التأويل مجددا.
والأكيد، أن الصيغة التي طرح بها هذا السؤال تهدم كل تلك الأطروحات الأحادية التي اجتزأت فعل التأويل، حتى إن بعضها كان يأخذ بظله فقط. وهكذا فلن "يظل التأويل قائما على منحى نفسي صرف
أو اجتماعي أو بنيوي أو سيميائي أو أسلوبي أحادي البعد، وإنما هو مناداة بإعادة الاعتبار لسلطة السياق وسلطة النص وكذا سلطة القارئ، في الحدود التي تمتلك أكبر قدر من الآليات الإجرائية التي تنطلق من بنيات النص أو دوائره الصغرى، لتتوسع من خلال بنيات أعلى مؤطرة (الدوائر الكبرى)"
([5]).
1-2-التأويلية العربية وبناء التعاقد التأويلي
راكمت التأويلية العربية جملة من المبادئ الكبرى، ولدتها مكابدات الذوات المؤوِّلة في تفاعلها مع النصوص المؤوَّلة كما هو الحال في خطابي التفسير والشرح.ساهم الاشتغال بالقرآن الكريم، على وجه الخصوص، في إنضاج مسار التأويل العربي، لاستناد هذا الاشتغال إلى كلام الله تعالى وما يفرضه الواجب الديني من مضاعفة للجهد والانتباه والتدقيق، مخافة الوقوع في الزلل الذي من شأنه أن يغضب الله تعالى من المؤوِّل.
لقد ساعدت هذه الظروف الخاصة بالأمة العربية الإسلامية في إنتاج خطاب تأويلي على درجة عالية من النضج، حيث تأسس من خلال لحظات "التصحيح والتجاوز والنبذ، وعلى أشكال التقلب والتطوير التي يمكن أن تعرفها ثقافة تؤمن بضرورة الاتكاء على قواعد صلبة في تأسيس معرفة بالنص المحوري في حياة العربي المسلم: القرآن الكريم"([6]). تشكل هذا الخطاب التأويلي من بلاغات متضافرة يتساند بعضها مع بعض، حصرها الباحث محمد بازي في أربع بلاغات مركزية هي:

أ- بلاغة الارتداد
هي بلاغة نقلية، يعد التفسير وجهها الأكمل، وتعود بالنص في حركة ارتدادية إلى المنطلقات والأصول التي تشكلها الجوانب الدينية والعقدية واللغوية والنحوية والبلاغية والتاريخية والاجتماعية. يعرفها الباحث بكونها "مجموع إجراءات في الفهم قائمة على العودة إلى مراجع المعنى السابقة على تكونه، أو التي كانت وراء تشكله إنتاجا، أو المساعدة على بلوغه تأويلا: نصوص، مواد معجمية، السياق، كتابات سابقة
أو أي شكل معرفي
آخر..." ([7]).
ب- بلاغة الامتداد
إذا كان الارتداد حركة نقلية نحو الخلف، فإن الامتداد حركة ذهنية في اتجاه الأمام لبناء معنى جديد فيما لم ترد فيه نصوص. يحدها الباحث بأنها " مجموع الخطوات التأويلية التي تتوجه إلى غاية أو مقصد، دون الاعتماد على مراجع مضبوطة. إنها امتداد نحو غايات الفهم والإفهام، فيما لم ترد فيه نقول، وهي مقيدة كذلك بموجهات وأدوات في العمل" ([8]).
ج- بلاغة الترجيح
يحتاج الارتداد والامتداد إلى الترجيح، لأن التأويل فضاء " للمحتمل والمرجوح "([9])، الذي يدفع المؤوِّل إلى تشغيل عدد من القدرات والمهارات القرائية لترجيح المعنى الوارد المنسجم. فبلاغة الترجيح " نتاج جهد ذهني وبحث عميق عن مرجحات وأدلة قوية لتأييد هذا المعنى أو ذاك. وهي عمليات تراعى فيها اللغة مواضعاتها، ومقاصد النص أو مقاصد صاحبه إذا كانت معروفة، ومساق الكلام، وغيرها من المعايير" ([10]).  
د- بلاغة الاعتدال
عرفت التأويلية العربية في تنوعها وتباينها بلاغات ثلاث متنابذة هي: بلاغة الإفراط، التي مثلها المتصوفة والفلاسفة في خطاب التفسير؛ لأنهم "حاولوا أن يجدوا في القرآن ما يشهد لأفكارهم، فتعسفوا في فهم الآيات، وخرجوا بها عن ظواهرها التي تؤديها اللغة " ([11]). وبلاغة التفريط التي امتثل لها أصحاب "تسييس" القرآن الكريم كغلاة الشيعة، حينما لم يحاولوا بلوغ "الحد الأدنى من مواصفات التأويل المقبول المستند على اللغة والأدلة النصية والسياقية الكافية" ([12]).
أما بلاغة الاعتدال القائمة على أن لا إفراط ولا تفريط في التأويل، فقد خاضت معتركات عسيرة ضد البلاغتين السابقتين اللتين قادتا المسلمين إلى "حدوث أهوال وسيلان دماء كثيرة"([13])، لتؤكد أنها الأنسب لطبيعة الخطاب القرآني، والأليق بالنسق الثقافي العربي. فالاعتدال أو الوسطية داخل في روح القرآن وميول الإنسان على حد سواء.
قد تدخل بلاغة الاعتدال تحت مفهومها البلاغات الثلاث السابقة؛ لأنها تظل ملتزمة بمعايير محددة تحيد بها عن تجاوز الحد علوا أو استفالا.وإذا كانت التأويلية العربية تنضبط في جوهرها لبلاغة الاعتدال، فإنها تشترط في المؤوِّل التوفر على عدد الكفايات، ليستطيع القيام بفعل التأويل على أحسن وجه. ومن أهم هذه الكفايات:
أ- الكفاية العقدية
ترتكز على صحة المعتقد وصفاء المقصد. وهذا الأمر يسم التأويلية العربية بميسم خاص. فلم " تشترط التأويليات الحديثة التي نظرت لقراءة النص الأدبي مثل هذا التضييق، وركزت على قنوات الفهم وإجراءاته ومستوياته وحدوده. ومرد هذا الأمر، فيما نرى، هو التعالق الشديد بين إيمان المؤوِّل بالنص ومقاصده من عمله، فهما كل متلاحم، ومن لا يؤتمن على دنيا لا يصح ائتمانه على دين" ([14]).
ب- الكفاية المعرفية
يجب على المؤوِّل أن يلم بمعارف متعددة من لغة واشتقاق ونحو وبلاغة وغيرها، بحيث يكون متمكنا منها تجميعا وتحقيقا. فتكون له في التجميع القدرة على "الأخذ والحفظ والجمع من علوم وظيفية"([15]). وفي التحقيق التمكن من " إرجاع المادة المحفوظة إلى أسانيدها، والأقوال والأشعار إلى أصحابها" ([16]). 
ج- الكفاية المنهجية
تتصل بكل مهارات إنتاج النص التأويلي، مما له ارتباط بالتمكن من طرائق الاستدلال وفنيات التنسيق التي تضمن للنص المنجز تماسكه لينأى عن التناقضات والمزالق.
احتاج استخراج البلاغات والكفايات المتحكمة في قضية التأويلية العربية من الباحث محمد بازي جهدا جهيدا؛ لأنه لم يجدها معروضة بين دفتي كتاب، ولكنه نقب عنها في مقدمات الكتب ومتونها؛ إذ كانت تنجلي صريحة أحيانا وتلتوي مضمرة أحيانا أخرى. ومن صريحها ومضمرها تشكل التعاقد التأويلي العربي الذي يرسم صوى الطريق وحدود جغرافيته لتحقق التأويل المقبول، وترسم بلاغة التأويل التي تعصم التأويل من أن يكون فعلا حرا قد يتحول إلى إبداع ثان، بعيدا عن بلاغة تأويلية واضحة المعالم والخطوات، تستطيع مقارعة بلاغة توليدية يلتزم بها صاحب الخطاب موضوع التأويل.
2 - التساند والتقابل
يقترح الباحث محمد بازي تأويلية تقوم على التساند الذي يعد معطى قاعديا في كل تأويل عربي
أو غربي. ويقصد به "تبادل العون والمساندة في عملية بلوغ المعنى بين العناصر المعتمدة في الفهم؛ فاللغة مثلا تسند التخريج النحوي أو البلاغي، والاشتقاق يسند اللغة والنحو، والنصوص الموازية تسند الدلالة... إنه تساند يتأسس لحظة الاشتغال بالتأويل بين الدوائر النصية والدوائر السياقية، وهو تساند تتحقق فيه الملاءمة والانسجام بين العناصر والمستويات"
([17]).
ولتعضيد هذه التساندية ومنحها بعدا إجرائيا قويا، انتبه الباحث إلى ضرورة سند هذه التساندية باستراتيجية التقابل. فإذا كانت التساندية سمة متحكمة في كل تأويل، فإن التقابلية سمة ماثلة في كل شيء من حولنا. وقد يفهم من هذا الأمر أن الباحث يسعى إلى بناء منهاجية تأويلية قادرة على منافذة المطلق؛ لأنها آتية من المطلق كذلك.
يعني محمد بازي بالتقابل "محاذاة المعاني بعضها ببعض، والتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي، عبر مواجهتها ببعضها (وجها لوجه)، لإحداث تجاوب ما أو تفاعل معرفي، أو دلالي وتأويلي" ([18]).
يتسم الأنموذج التأويلي التساندي التقابلي الذي يقترحه الباحث بخمس خواص مهمة هي: "الدورانية والتساندية والانفتاحية والتعاقدية والتقابلية"([19])، مما يمنح لهذا الاقتراح صلابة قوية وقدرة على دراسة أنماط النصوص والخطابات المختلفة.



2-1-التقابل: تنشيط للمصطلح
التقابل مصطلح قديم ضارب في جذور التاريخ، جعله البلاغيون بابا من أبواب البديع، وشغلَّه الخطاب التأويلي العربي النقدي أو التفسيري في فهم النصوص، كما اهتم به المناطقة، ورام توسيع دلالته السميائيون كإيكو وكريماص.
غير أن الباحث أخرج هذا المصطلح من معناه المعروف المتوارث إلى معنى أكثر توسعا وتمطيطا، فجاء عمله في هذا السياق إعادة تنشيط لمصطلح التقابل بعدما تكلس مفهومه وضاقت عليه حدوده.
ولعمري، هذا إجراء عملي ناضج، يعيد الروح للمصطلحات التراثية، بعدما أقعدها جمود الباحثين والدارسين في دلالة واحدة بسيطة، لم تعد قادرة على مسايرة ميلاد النصوص وتجددها. وهو إجراء أكثر حداثية من ميل كثير من الدارسين إلى نحت مصطلحات جديدة أو ترجمة غيرها من ثقافات أخرى مع وجود ما يدل عليها في تراثهم.
إن تنشيط مصطلح التقابل يسمح للباحث بأن يحوله إلى استرتيجية قرائية بالغة الغنى، تصلح لقراءة مختلف أنماط النصوص والخطابات، وتسمح ببناء قراءة منهجية حقيقية في التعليم الثانوي وإنجاز بحوث مثمرة في التعليم الجامعي.
فالتقابل الذي يقترحه الباحث ينبني على التساندية، بل هو يقويها عندما تشتغل على المعاني التي يحاذي بعضها بعضا داخل النص الواحد، أو بتفاعل مع النص والنصوص الأخرى إبداعية أو ثقافية. وهو ما سماه الباحث "التقابلات النصية المؤطَّرة" و"التقابلات الموسَّعة".
وبما أن مصطلح التقابل لحقه التوسيع والتنشيط، كان لابد أن تتشعب أشكاله وتجلياته. مما استدعى من الباحث شبكة مصطلحية تسمي هذه الأشكال والتجليات، وقد وصلت عنده إلى سبعة وثلاثين مصطلحا هي:([20])




·  تقابل الإثبات والنفي.
·  تقابل الآحاد.
·  التقابل الافتراضي.
·  تقابل الأمكنة.
·  التقابلات الاستتباعية.
·  التقابلات الصغرى المؤطَّرة.
·  التقابلات الكبرى.
·  التقابلات النصية المؤطِّرة.
·  تقابل التحاور.
·  تقابل التراتب.
·  تقابل التشابه.
·  تقابل التشارك اللفظي.
·  تقابل التشاكل.
·  تقابل التصدير.
·  تقابل التفارق.
·  تقابل التمثيل.
·  تقابل التناسب.
·  تقابل الحاضر والغائب.
·  تقابل حال الذوات.
·  تقابل الخبر والإنشاء.
·  تقابل الخطاب.
·  التقابل الزمني.
·  تقابل الصيغ والأوزان.
·  تقابل الظاهر والباطن.
·  تقابل الفاعل والمفعول.
·  التقابل المتعدد.
·  تقابل المعنى ومعنى المعنى.
·  تقابل المقاصد.
·  تقابل المقاطع أو الفقرات.
·  تقابل النسق.
·  تقابل النسق التواصلي.
·  تقابل النص وسياقه.
·  تقابل النص والعنوان.
·  التقابل النظيري.
·  تقابل النظائر النصية.
·  التقابل النقيضي.
·  التقابل النووي.



2-2-التقابل البديعي: محاولة في التوسيع
إن التقابل الذي يقترحه الباحث محمد بازي يتسم بالتوسع والانفتاح. وتدل عليه كمية التقابلات التي تجاوزت ثلاثين شكلا، ونوعيتها التي راوحت بين الانغلاق على النص والانفتاح على خارجياته.
في اعتقادنا، أن هذه الأشكال التقابلية الغنية من شأنها أن تتبلور في بحوث جامعية تنطلق منها جمعا
أو إفرادا في دراسة النصوص والخطابات المختلفة، فضلا عن إمكانية توسيعها أو اقتراح أشكال أخرى تغنيها.
وهذا الأمر، لا يغضب الباحث في شيء بل هو يرغب فيه، عندما يقول: "واستنادا إلى هذا التوجه في القراءة، يمكن لغيرنا أن يقف على أنماط أخرى من التقابلات، التي لم نتمكن من ملاحظتها، وتطعيم قراءته بها"([21]). ويقول كذلك في معرض آخر: "يمكن للقارئ أن يكتشف أنظمة أخرى للتقابل ذات طابع منطقي أو تواصلي أو بنيوي تقدم سندا للقراءة التساندية والتأويلية"([22]). ودعما لاعتقادنا وتلبية لرغبة الباحث، سنحاول توسيع شكل من أشكال التقابل الأكثر تجذرا في تراثنا البلاغي وهو ما نسميه "التقابل البديعي" القائم على الطباق والمقابلة بوصفهما بابين من أبواب علم البديع، مع وعينا بالتنبيه الذي يسوقه الباحث بقوله: "ننبه هنا أن آلية التقابل التي نتكلم عنها غير مفهوم المقابلة الذي تناولته البلاغة العربية، مع أنه يحتويها، بل هي تجل من تجليات التقابل"([23]). 
يندرج التقابل البديعي ضمن التقابلات الصغرى بشكل عام، كما يمكن إدخال الطباق في تقابل الآحاد أو التقابل النقيضي، والمقابلة في تقابل النسق.
ولن يصبح التقابل البديعي آلية قرائية تدخل في صميم استراتيجية التأويل التقابلي، ما لم يلحقه تطوير وتوسيع في أفق تنشيط المصطلح البلاغي لجعل علم البلاغة أكثر إنتاجية سواء في قراءته للنصوص القديمة
أو الحديثة، وفي مختلف أنماطها.
2-2-1-الطباق
اتفق البلاغيون على أن الطباق هو الجمع بين الشيء وضده. لكن وجهات نظرهم تباينت حول الرابط بين الدلالة الاصطلاحية والدلالة اللغوية، فمنهم من فهم المطابقة بمعنى الموافقة([24])، في حين أن الجمهور ربطها بمطابقة البعير في مشيته، فرأوا أن "البعير قد جمع بين الرجل واليد في موطئ واحد، والرجل واليد ضدان أو في معنى الضدين، فرأوا أن الكلام الذي جمع فيه بين الضدين يحسن أن يسمى مطابقا"([25])، فدلت المطابقة عندهم على المخالفة. وشذ عنهم ابن أبي الحديد الذي فهم من المطابقة معنى المشقة، فقال: "الطبق في اللغة المشقة، قال الله سبحانه: ﴿لتركبن طبقا عن طبق﴾ أي مشقة بعد مشقة، فلما كان الجمع بين الضدين على الحقيقة شاقا بل متعذرا، ومن عادتهم أن تعطى الألفاظ حكم الحقائق في نفسها توسعا، سموا كل كلام جمع فيه بين ضدين مطابقة"([26]).
وقد أثار هذا النقاش أستاذنا الدكتور محمد زهير، فشارك فيه برأي طريف، يفيد أن المعنى يتجه إلى الإطباق، فكأنك بإيراد المعنى وضده تطبق عليه من ناحيتين متضادتين أو متقابلتين، فلا تتيح له انسرابا
أو تضيق عليه منافذ الانسراب.
إن تعدد الآراء حول العلاقة الجامعة بين الدلالة الاصطلاحية والدلالة اللغوية للطباق أو المطابقة مؤشر على غنى هذه الآلية البلاغية، ففيها التوافق وفيها التخالف وفيها الاعتياص وفيها الإطباق. مما يسمح لنا بإعادة قراءتها رغبة في الكشف عن قوتها في منافذة النصوص والخطابات. وقد أشار حازم القرطاجني إلى أن الطباق ما يزال محتاجا إلى البحث والمدارسة يقول: "وقد تكلم الناس في ضروبه وبسطوا القول فلا معنى للإطالة، إن قصدنا أن نتخطى ظواهر هذه الصناعة ومن فرغ منه إلى ما وراء ذلك مما لم يفرغ منه"([27]).  
وبذلك، نرى أن آلية الطباق بإمكانها أن تمنحنا الأشكال الآتية:
أ- الطباق اللوني
يفهم من هذه التسمية أن مفردتي الطباق تنتميان إلى حقل الألوان. وهو في عرف علماء البديع يصطلح عليه بالتدبيج. ويعد هذا الاصطلاح من مخترعات ابن أبي الأصبع المصري الذي وضعه في باب مستقل عن الطباق، مما يدل على قيمته وأهميته.
ومما يؤكد هذه القيمة أن هذا الضرب من الطباق يستقل بمجال الدوال اللونية التي توظف بكثرة في النصوص النثرية والشعرية، كما تحمل ذاكرة رمزية يختلط فيها الفني بالأسطوري. وقد يكون هذا الغنى هو الذي دفع الباحث مشتاق عباس معن إلى إلحاق هذا المصطلح بالكناية أو التورية، بدل قصره على الطباق([28]).
وسنعمل على تجلية الأبعاد التخالفية للطباق اللوني في الشعر القديم من خلال معاينة اشتغالاته المختلفة. والتي لا تخرج عن اشتغالين بارزين هما:
أ-1- من التلوين إلى الترميز:
عني البلاغيون بهذا الاشتغال الذي يفيد أن المؤوِّل ينتقل من الدوال اللونية إلى دلالاتها الرمزية التضادية؛ لأن الشاعر يصرح باللون ويضمر رمزيته.
ففي قول أبي تمام:
ألبست فوق بياض مجدك نعمة        بيضاء حلت في سواد الحاسد
مطابقة بين البياض والسواد، إذ يعلي الشاعر من قيمة اللون الأبيض الذي يأتي اسما وصفة؛ ففي الأول يضاف إلى المجد. وفي الثاني يغدو صفة تابعة لموصوفها تدوم بدوامه، ليدل اللون الأبيض في الحالتين معا على النقاء الثابت والأصل العريق والشمائل الطيبة.
أما مقابله اللون الأسود، فيرمز إلى دلالة نقيضة تشكلها الشوائب والأصل الهجين والأخلاق الفاسدة وهي معان تصب كلها في دلالة الحسد.
وقد يأتي اللون الأبيض رامزا إلى الصدق، يجيء الأسود مكنيا عن البهتان كما في قول أبي تمام:
بيض الصفائح لاسود الصحائف في          متونهن جلاء الشك والريب
أ-2- من الترميز إلى التلوين:
لم يهتم البلاغيون بهذا الاشتغال أثناء حديثهم عن التدبيج، على الرغم من جمالية صنيعه وفرادة توظيفه، إذ يعمد الشعراء إلى الإعلان عن الرمز الذي يكون خفيا في الاشتغال الأول السابق، وإضمار اللون الذي يكون صريحا فيه.
وبذلك، فالمؤوِّل يتصل بالرمز ليفهم منه الإشارة إلى اللون المضمر. كما هو الحال في قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا          وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فالشاعر يصف صورة بصورة، ويخلق علاقات كثيرة متفاعلة، تهمنا منها العلاقة اللونية، والتي تظهر عندما نفكك التشبيه إلى بنيتين صغيرتين؛ فالليل يوحي بالسواد والظلمة، أما الكواكب فتومئ إلى البياض والضياء. وفي اشتباك اللونين تبرز الحركة، ويعظم الخطب، وينجلي النصر. ونظيره قول أبي تمام:
غادرت بهيم الليل وهو ضحى
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
ضوء من النار والظلماء عاكفة

يشله وسطها صبح من اللهب
عن لونها وكأن الشمس لم تغب
وظلمة من دخان في ضحى شحب  
فرض سياق المعركة، كما في المثال السابق، على الشاعر رسم معالم النصر والظفر، عامدا إلى ريشة سحرية تتجاوز ريشة الرسام، إذ تضمر اللون وتصرح بدلالته، وتترك لنباهة القارئ مهمة الكشف عن اللون المضمر، لما للون من دور في استجلاء دلالة الأبيات وفهم تركيباتها الاستعارية. وهو ما يمكن استبصاره من عبارة "رغبت عن لونها".
فقد عبر الشاعر بالدجى وهو اللون الأسود، وعبر بالضحى وهو يروم الضياء والبياض، ثم إن التمامي لا يتوقف عند هذا الحد، بل ينتقل من دلالة الدجى إلى رمزية الهزيمة النكراء، ومن دلالة الضحى إلى رمزية النصر المظفر.

ب- الطباق الحركي
لم يذكر البلاغيون هذا النوع من الطباق، ولم يلمحوا إليه لأنهم كانوا مشغولين بالتجليات الشكلية للطباق، والتي قادتهم إلى تقسيمات تمس المستوى السطحي البسيط. دون إيلاء العناية بجانبه الوظيفي الذي يرتبط بالمستوى الباطني العميق.
وقد يكون محمد عبد المطلب أول من انتبه إلى هذا النوع الطباقي([29]) الذي ينقسم إلى أقسام، منها:  
ب-1-الحركة العمودية:
تنتقل الحركة، هنا، بين الأعلى والأسفل لإبراز توتر المفارقة. يقول منصور النمري:
           وإذا رفعت امرأ فالله يرفعه

ومن وضعت من الأقوام يتضع  
يوظف الشاعر الحركة العمودية توظيفا معنويا لا ماديا، مركزا على الارتفاع الدال على علو الرتبة. وهو ارتفاع فيه إغراق واضح؛ لأن الممدوح إذا أقرّ بارتفاع درجة امرئ ما، رفعه الله تعالى درجات عالية. ودل الاتضاع على الانخفاض في الرتبة إلى درك أسفل سحيق.
ويقول بشار بن برد:
             إذا أيقظتك حروب العدا

فنبه لها عمرا ثم نم  
يتداخل الحسي بالنفسي في حركية الطباق العمودي بين فعل تتجه دلالته نحو الأعلى "أيقظتك"، وآخر يتجه معناه نحو الأسفل "نم"؛ لأن الإيقاظ، هنا، لا يدل على مجرد الاستفاقة من النوم، بل يومئ إلى الهلع الشديد الذي يتوقف فيه الإنسان، وتضطرب حواسه، فلا يعرف ما يقدم وما يؤخر. خصوصا، أن الإيقاظ موصول بحروب الأعداء. أما النوم فمؤشر على حركة معاكسة تماما، لتجاوزه حد إغماض الجفون إلى راحة البال وخلوه من الهموم.
والغريب، أن ما يؤجج هذه المفارقة هو مجرد تنبيه عمر؛ أي الاكتفاء بلفت انتباهه فقط؛ لأنه حريص شجاع لا يغمض له جفن، تماما كما قال الشاعر:
                 فتى لا ينام على ثأره

ولا يشرب الماء إلا بدم
 ب-2- الحركة الأفقية
وفيه يتجه الطباق اتجاها أفقيا في شكلين لا يكاد يخرج عنهما شكل ندعوه "بالمتدابر"، وتكون فيه الحركة معكوسة، إذ هناك كلمة تتجه ذات اليمين وأخرى صوب اليسار. وشكل نسميه "المتوالي"، وحاصله أن تتوالى كلمتا الطباق في تعاقب ترتيبي صوب اتجاه واحد.
ومن الشكل المتدابر قول بشار:
            تروح بأرزاق وتغدو بغارة 

فأنت ذعاف مرة وربيع  
يدل الرواح الذي تتجه فيه الحركة إلى الإياب الغانم على الكرم والجود لأنه موصول بالأرزاق، ويفيد الغدو الذي تتجه فيه الحركة إلى الذهاب العازم على الشجاعة والبسالة لارتباطه بالغارة وبذلك، انزاحت ثنائية الذهاب والإياب عن بعدها المادي إلى بعد نفسي يصور الفضائل التي عد نقاد العربية من أبرزها الكرم والشجاعة.
ومن الشكل المتوالي قول العتابي:
                كم صفيين متعا باتفاق

ثم صارا لغربة وافتراق  
يأتي الاتفاق بين الأصفياء بداية تشيع جوا من المحبة والإخاء والقرب، ثم يليه "الافتراق" النقيض الذي يؤثر سلبا في الأنفس. والملاحظ، أن الشاعر وهو يذكر هاتين اللحظتين المتواليتين وظف الرابط "ثم" للإعراب عن التعقيب مع التراخي إشارة إلى كون اللحظة الأولى متراخية في الزمن؛ لأنه ما من شك في كون الزمن الطويل المتراخي هو الذي من شأنه أن يعمق آصرة الصداقة والاتفاق، والتي يأتي بعدها الافتراق أليما.
ج- الطباق النغمي
كثيرا ما يميل المبدعون إلى خلق جسور من التوالج والتداخل بين الطباق ذي الدلالة المتنافرة، والنغم ذي الإيقاع المنسجم، ليحصل من تفاعلها الطباق النغمي الذي يشكل جزءا من سحر الإبداع.
ويأتي الطباق النغمي في الخطابات منقسما إلى قسمين:
ج-1- تنغيم الإطار
وهو نغم يعتري دالي الطباق عن طريق تماثل الإطارين الخارجين كما في قول منصور النمري:
    مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق 

ولا مغرب إلا له فيه مادح  
اشترك الطباق "مشرق" و"مغرب" في صيغة مفعل التي مسحت الطباق بمسحة إيقاعية أخاذة، فضلا عن تنوين الضم الذي أضاف ترنمات ودندنات مونقة امتدت خطيا لإبراز الإيقاع وتوضيحه.
ج-2- تنغيم البنية
وهو تنغيم ينشأ عن تماثل داخلي يلتئم الأصوات المشكلة لدالي الطباق، لتلتقي المفارقة الدلالية بالانسجام الصوتي كما في قول النمري:
      فيها القصور التي تهوي بأجنحة

بالزائرين إلى القوم المزورين  
يتمثل دالا الطباق في "الزائرين" و"المزورين". إذ يعمد الشاعر، من أجل تنغيم هذا الطباق، إلى عملية الاشتقاق التي تعينه على بناء المخالفة؛ لأن اسم الفاعل "الزائرين" يخالف اسم المفعول "المزورين". وبذلك، يتحد الأصل الاشتقاقي الماثل في "زار"، مما يكسب اللفظين المخالفين تشابها في الكثير من الحروف.
2-2-2-المقابلة
ترتبط المقابلة بالطباق أيما ارتباط، حتى إن متقدمي النقاد والبلاغيين كانوا يدرسونهما تحت باب واحد، فقادهم هذا الربط إلى الخلط والالتباس.
وقد تجاوز المتأخرون ذلك حينما درسوا المقابلة مفصولة عن الطباق، رغم أنهم عندما تكلموا عن الأولى استحضروا الثانية ضرورة، وانطلقوا منها.
إن الفارق بين الطباق والمقابلة كمي بالأساس، وهو ما نلحظه في قول ابن رشيق: "فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة"([30]).
ويظهر لنا أن المقابلة طباق مركب سواء تأسس على التوافق أم لم يتأسس عليه. وأن الفرق بينهما كمي في ظاهره، كيفي في باطنه؛ لما لتعدد المفارقات داخل الكلام من مساهمة جليلة في إغناء الدلالة ووسمها بالانفتاح.
لذلك، اعتنى البديعيون عناية خاصة بالمقابلة أكثر من عنايتهم بالظواهر البديعية الأخرى، ويوضح السجلماسي ذلك بأن " أهل هذه الصناعة يعدون إيراد مطابقات كثيرة في البيت الواحد من التبريز وفرط المقدرة" ([31]).
ترد المقابلة في الخطاب بأشكال متعددة، أبرزها:
أ- المقابلة الاتفاقية
فيها يتوافق القسيم الأول للمقابلة مع قسيمها الثاني موافقة ارتباط واتصال، فيكسر فجوة المفارقة المفترضة في المقابلة المنبنية على تعدد الطباقات، ثم يحيلها إلى اتصال وتكامل متعدد المستويات، مثل:
أ-1- اتفاق الإحلال
تنزع فيه المقابلة الاتفاقية إلى التحول من حالة تدفعها الذات إلى أخرى تقرها. وأبدع فيها أبو تمام في مواطن كثيرة من شعره، كقوله:
     يا أمة كان قبح الجور يسخطها

دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها  
تفيد المقابلة الانتقال من حالة إلى أخرى، أي التحول من حالة ماضوية يفصح عن زمنيتها الفعل الناقص "كان"، والتي كان يسخط الأمة فيها قبح الجور والظلم، والانتقال إلى حالة راهنة يوضحها الفعل  المضارع "أصبح"، والتي غدا فيها ما يرضي الأمة وهو حسن العدل.
 ولا يخفى على المؤوِّل ما في الحالتين من إشارة خاطفة تستطيع القراءة المتأنية فك رموزها، إذ أن الحالة الأولى الماضوية تؤشر على توافر التوتر والغليان والاحتقان الناتج عن السخط، والدافع إلى مواجهة الجور، فيما تنهض الثانية الراهنة على الاستقرار وحسن التدبير والتطلع إلى غد ديمقراطي أفضل بإيعاز من جو الرضا المتحصل للأمة.
فالتحول، إذن، هو من حالة الحرب التي تفرض مجابهة الظلم إلى حالة السلم التي تؤدي إلى زرع قيم العدل.
أ-2- اتفاق الإشادة
تهدف فيه المقابلة الاتفاقية إلى الإشادة بحدث ما أو شخص ما. كما في قول النمري: 
     لئن حسنت فيك المراثي وذكرها

لقد حسنت من قبل عند المدائح
 يقابل الشاعر تصريحا بين "المدائح" و"المراثي"، وتلميحا بين "من قبل" و"من بعد" التي يستجلبها السياق التداولي للبيت. مشيدا بشخصية المرثي يزيد بن مزيد الذي كما حسنت فيه المدائح من قبل في حياته، حسنت كذلك فيه المراثي من بعد في مماته.

ب- المقابلة الافتراقية
ينزع طرفا هذا اللون من المقابلة إلى الانفصال المتوائم مع المقصد الأولي للمقابلة. غير أنه لا يقف عند هذا المقصد، بل يخرج بالقول التقابلي إلى دلالات مضمرة تؤجج حركية الانفصال والافتراق وتمنحه فاعلية في تركيب القول.
وللمقابلة الافتراقية شكلان بارزان هما:
ب-1- افتراق التقارن
 تأتي المقابلة الافتراقية للمقارنة بين طرفيها من خلال الإلحاح على جهات التباين بينهما يقول أبو تمام:
     أبقيت جد بني الإسلام في صعد

والمشركين ودار الشرك في صبب  
تهدف المقابلة إلى المقارنة بين وضعيتين: أولهما المنزلة الرفيعة للمسلمين، والتي جلبها إليهم المعتصم بانتصاره في فتح عمورية، وثانيها: المكانة المخزية للمشركين جراء هزيمتهم وغلبتهم.
ب-2- افتراق المبالغة
قد تجئ المقابلة الافتراقية للإعراب عن المبالغة في طرفيها أو في طرف واحد مما يحقق للمبالغة قوة وشدة. ومن ذلك قول أبي تمام:
      فصيح إذا استنطقته وهو راكب

وأعجم إن خاطبته وهو راجل  
يقابل الشاعر بين حالة يبالغ فيها عندما يصف القلم بالفصاحة إذا استنطقه الإنسان وهو راكب، وبين حالة مخالفة يبالغ فيها حينما ينعت القلم بالعجمة إذا خاطبه الإنسان وهو راجل.
ج- المقابلة المتوازية
عندما تعزز المقابلة بالتوازي تبرز الموضوعات الضاغطة على الشاعر، وتقدم للمؤوِّل على شكل مداخل أو مفاتيح لقراءة نصوصه.
ويتخذ التوازي التقابلي شكلين بارزين هما:
ج-1- التوازي التام
يتوازى طرفا المقابلة توازيا تاما، يتبعان فيه الخطاطة النحوية نفسها. ومن نماذجه قول مسلم بن الوليد:
        فلم أر إلا قبل يومك ضاحكا

ولم أر إلا بعد يومك باكيا  
جاء الصدر والعجز متشابهان في الخطاطة النحوية التي منحتهما قوة في التجلي والبروز:

فلم
أر
قبل
يومك
ضاحكا
لم
أر
بعد
يومك
باكيا
ج-2- التوازي الناقص
يتوازى طرفا المقابلة توازيا ناقصا، يتخذ أشكالا متنوعة تهدف بطريقة لا واعية إلى تنبيه المؤوِّل على بعض الخيوط التي تساعده في مساره التأويلي.
ومن أمثلة التوازي الناقص قول بشار:
            صدق البخيل يسرني

ويسوءني كذب الجواد  
قفل
تتسم المنهاجية القرائية التي يقترحها الباحث محمد بازي، والتي تتخذ من التأويل التساندي التقابلي موضوعا لها، بأهمية بالغة. قد يبرز أحد وجوهها في كونها أرضية علمية منهاجية غنية تفتح أمام الباحثين آفاق البحث العلمي الجاد، تبعدهم عن كثير من الموضوعات المكرورة المبتذلة التي أصبح كثير من البحوث الجامعية يتسابق إليها متذرعا بتعليلات كثيرة لعل أبرزها وفرة المراجع والمادة العلمية.
وفي اعتقادنا، فأشكال التقابل المتعددة التي يقترحها الباحث محمد بازي تفتح شهية الانخراط للباحث الجاد. بل إننا نجزم أن كل شكل من أشكال التقابل الكثيرة يحتاج إلى بحث مستقل بذاته يعمق النظر فيه، ويكشف عن قوته الإجرائية في مقاربة النصوص والخطابات المختلفة مما يعود بالنفع العميم على تأويلية التقابل التساندي ويمنحها قيمة غورية عمودية.
ودعما لهذا الاعتقاد، جاءت هذه المداخلة محاولة تعميق البحث في التقابل البديعي الذي يعد مجرد شكل تقابلي فحسب، بهدف المساهمة في إغناء استراتيجية التأويل التقابلي من جهة، وتجديد الدرس البلاغي القديم خصوصا في شقه البديعي، ليقوم بوظيفته الحضارية التي ينتظرها منه هذا الشرط التاريخي المتغير أكثر من أي وقت مضى من جهة أخرى.


[1] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م، ص. 66.
[2] - نفسه ، ص. 22.
[3] - نفسه، ص. 23.
[4] - نفسه ، ص. 18.
[5] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م ، ص. 69.
[6] - نفسه ، ص. 34.
[7]- محمد بازي، التأويلية العربية، م.م ، ص. 347.
[8]- نفسه ، ص.347.
[9]- نفسه، ص. 29.
[10]- نفسه، ص. 346.
[11]- نفسه ، ص39.
[12] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م ، ص.35.
[13] - نفسه، ص.35.
[14] - نفسه، ص. 46-47.
[15] - نفسه ، ص. 44.
[16] - نفسه، ص. 44.
[17] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م ، ص. 348.
[18] - نفسه ، ص.348.
[19] - نفسه، ص.343.
[20] - دلالة هذه المصطلحات موجودة في ملحق المصطلحات في كتاب "التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات"،  م.م. وكتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي"، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط.1، 2010.
[21] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م، ص.265.
[22] - نفسه ، ص.254.
[23] - محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي،  م.م، ص.160.
[24] - ينسب السجلماسي هذا الرأي لجماعة من أهل الأدب. أنظر المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق: علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط.3، 1986، ص.369.
[25] - ابن أبي الأصبع المصري: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، تحقيق: حفني محمد شرف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1963، 1/111.
[26] - ابن أبي الحديد: الفلك الدائر ضمن المثل السائر، تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مكتبة نهضة مصر، الفجالة، القاهرة، ط1، 1959، 4/300.
[27] - حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط.3، 1986، ص.51.
[28]- اُنظر مقالة: "التدبيج بين البيان والبديع"، مجلة جذور، الجزء 16، المجلد 8، مارس 2004، ص.488.
[29]- انظر: محمد عبد المطلب: بناء الأسلوب في شعر الحداثة، دار المعارف، القاهرة، ط.2، 1995، ص.161.
[30] - ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط.5، 1981، 2/15.
[31] - السجلماسي، المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع،  م.م، ص.379.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: