محمد بازي
خير الحقائق ما كشفته التجربة والمعاينة، لا
ما حملته النظريات حول المكان والكاتب، والقادمة إلينا غالبا من أماكن لا علاقة
لها بالصحراء، ولم يقف أصحابها يوما واحدا تحت شموس الجنوب اللافحة، أو يكتووا
بالبعد ومنازل الاغتراب؛ فهذا أمر لا تغني فيه إلا الشهادات الحية المقبورة في ذاكرة النسيان.
القصد من نشر هذه الإفصاحات التخفيف من شكاوى
المتشكين والمتشكيات، وفَزَع النفوس
المتأففة من المكان، تحت دثار التذمر من الوطن ومن الترحلات، من الصحراء وأهلها، إن
الحلول بالجنوب الشرقي-وهذا مما تأكدنا
منه فيما بعد- فرصة لاكتساب القوة الأدبية والمعرفية، بل الجسدية، لا ترديد
المواجع والتأسفات، وانتظار الانتقالات. وها قد رحلوا ورحلنا وارتاح من بؤسنا وشكوانا الزمان والمكان، فلينظر كل بما عاد، ومما أعاد على المسامع من ألوان المكابدات.
ما الذي خلفته في نفسي جغرافيا المكان الصحراوي
وبعد المسافات، كيف بدا المكان الدرعي لمدرس وباحث شاب كان يؤْثر الشواطئ و المدن
الساحلية مجالا للعمل؟ كيف توقع حلوله بالمكان، وكيف تفاعل معرفيا وأدبيا مع الصعوبات الخفية والإكراهات الجلية؟
الإفصاح الثاني
أكشف في هذا الإفصاح عن أثر المكان على مساري
المعرفي، بهدف مراجعة صورتها المشَكَّلة قبلا، فحقيقتها كامنة في أثرها الإيجابي
أو السلبي في نفوسنا، ولأني ارتبطت قبل ست عشرة سنة بأماكن الجنوب التابعة لزاكورة، وتحديدا منطقة
تازارين وهما متشابهتان في الجغرافيا والطقس الحار صيفا والبارد شتاء، سيكون لهذه
الشهادة طعم الاعتراف بالنسبة لي على
الأقل ، وقوة استدلالية لغيري، لأنها نابعة من التجربة والممارسة والمكابدة
والتعلم، وعصيان أسرار المكان في البدء على الذوبان داخل الروح ، وهو ما أجد له صدى
عميقا وقويا في نفسي يصعب اختزال ملامحه، أو تصويره على نمط خاص، وربما لا يحُلُّ
أقفاله إلا مفتاح زيارة الأمكنة التي ارتبطت بها تجربة الترحال/ الترحيل النفسي والعقلي تلك. و
عندما أراجع نفسي وأتساءل: ما الذي تبقى لي من بلاد درعة، ومن عزلة المكان التي
دامت ست سنوات؟
لقد
أكسبني المكان الصحراوي قوة في النفس، وعودني الصبر والتحمل، وتعلمت عدم احتقار
الإنسان أيا كان، وكيفما كان، وأن أقدر أهل الجنوب وارتباطهم بذاكرتهم وهويتهم وثقافتهم
ولغتهم .إني أُدرك
تمام الإدراك أن التجربة الذاتية في علاقتها بالمسافات والطقوس وأحوال الناس لا
يغني عنها علم في كتاب، فهذا من أدب تهذيب النفس لا من أدب الدرس.كما لا تغني المعرفة
بشمال البلاد عن جنوبها، ولا سواحلها عن صحاريها وجبالها . وقد وقفت من خلال رحلاتي
إلى الجنوب على طبائع الناس، و تعلمت كيف
أستفيد من جوانب القوة في شخصياتهم.
الإفصاح الثالث
كان المكان التازاريني وقتئذ
منفى حقيقيا(ضعف البنيات التحتية،وقسوة الطبيعة....) لكني استفدت من مكابداته
تعلما وتأليفا؛ تعلمت تصبير النفس على المحن، والزهد في لذائد الحضارة وبريقها.وبقدر
ما تعلمت من المكان الصعب في طقسه ومنازله
وأحواله، فقد كنت مصرا على تحقيق
بعض المطامح الأدبية رغم ذلك، فكانت محصلة ست سنوات من الخلوة المفروضة ما يلي:التمكن
من تحضير دبلوم الدراسات العليا في موضوع : النص واستراتيجيات التأويل ومناقشته مَتَم
سنة 1999.ثم إنجاز الشق الأول من بحث الدكتوراه في التأويلية العربية.إلى جانب إعداد
أعمال أدبية، منها سيرة ذاتية بعنوان: المنفى والبهجة الغريبة في ثلاثمائة صفحة، تصف
صدمة الحلول في المكان أول الأمر. ومن ثمار الألفة بالمكان ديوان زجلي. وكتاب
نقدي: العنوان في الثقافة العربية : التشكيل ومسالك التأويل. وأخيرا مجموعة أدبية
بعنوان: أمواج الجنة طبعتها وزارة الثقافة في 2010.
صحيح أني تركت النشر
وقتئذ لاعتبارات لها علاقة بالمكان كذلك، وابتعدت كلية عن الأنشطة الثقافية
المحلية والوطنية، عن قصد وتَبَيُّن وإصرار، فلم أكن أحفل بالشهرة أو الحضور
الثقافي، وإن كنت أُلام أحيانا بقسوة على ذلك ، غير أني وجدت في ذلك راحة وانفلاتا من انتظارات من
كان يهمهم الأمر.كان المكان خير فاعل في تحريك المشاعر والخيالات، وفي المداومة
على المطالعة والاستكشاف، وعلى الكتابة والمراجعة، وهو ما ساهم إلى حد كبير في صقل
أدوات الكتابة، وأعطاني القوة على تحمل ذلك ، وقد جاءت ثمار كل ذلك بعد سنوات.
هذا
عن الجانب العلمي المستفاد من المكان دون مبالغة أو رياء أو تبجح بالمنجز، وإنما
اقتضى ذلك مقام السؤال عن أدوار المكان في الكتابة . أما الجانب الإبداعي فلا شك
أن ما كتبته -رغم قلته- تأثر بخصوصيات المكان
في محتواه وصوره، ولغته و معانيه، فلم يكن في مخيالي الأدبي قبل ذاك غير البحر
ومتعلقاته، ثم أصبح الشق الصحراوي يكمل
الجانب الآخر من الصورة، وهما عالمان إذا تمثلهما الكاتب عبر التجربة والمعاينة
أعطى ذلك أدبَه قوة في المعاني والأساليب
والأخيلة.
الإفصاح الرابع
ماذا
تعلمت من الجنوب الشرقي المغربي ؟
في تازارين القصية المعزولة الغامضة تقوت كفايات
الذات، وكبر الطموح وانتعشت المَلَكات، وبقدر ضغط المكان ووحشته اكتسبت النفْس
مناعة ضد التشكي وإظهار المعاناة والمكابدات، والقدرة على الجلوس ساعات طويلة
للعمل والبحث والمساءلة، لقد ساهم المكان -بشكل غريب- في تعميق أسئلتي المعرفية،
وفي قضايا التأويلية العربية، وما يتعلق بفهم النصوص والخطابات . عرفت أن للجبل
قوة وصمودا فتعلمتهما، وتعلمت من الشمس القوية أثرها في إنضاج التمور، ومن الصحراء
المتسعة رحابة الفكر وتعالي الآفاق، وتعلمت من صبر الإنسان الجنوبي قوة التحمل والرضى بالمقسوم،
وتعلمت من المسافات الطويلة قوة التأمل وبعد النظر، وتعلمت من الأيادي المتيبسة
بالحرارة أو القر والعمل الشاق تقدير عرق الناس. تعلمت من القصور المنتشرة في الواحات غموضا وهيبة عصيين على الفهم . تعلمت
من الهواء أن أكون في كل مكان، وأن يكون لي حضور بقيمة الحضور، وغياب بقيمة الغياب
عندما لا يكون للحضور معنى.
تعلمت من أهل الصحارى أن قيمة الإنسان ليست
في مكان وجوده، وإنما في المعدن الذي اختاره ليصوغ منه حقيقته ويعطي لوجوده صفة
مميزة ومعنى. تعلمت من المكان الصحراوي أن قيمة الإنسان تكمن في صفاء الأرواح ونبل
المواقف.
الإفصاح
الخامس
إنني
بهذه الاعتبارات أكون قد اغتنيت من المكان الصحراوي، و ظفرت بكنوزه وعرفت أسراره
وعجائبه، وأني عندما غادرت منذ عشر سنوات كنت غنيا معنويا على الأقل، لأني تعاملت
بصدق مع ما حولي، وفكرت بصدق، وأديت ما علي بصدق، أخذت مالي بصدق، وترفعت عما ليس
لي بصدق، دخلت بصدق وعلى مضض، وغادرت بصدق دون مضض، ولم تخذلني الأيام، ولا كذبتي
الفراسة. فسميت تلك التجربة البدنية والعرفانية "المنفى والبهجة
الغريبة".
وقد جاء فضل الترحل بحمد الله ، في وقت
استطعنا تحمله بالشباب والحماسة، وإذ نعود للمكان بهذا الحنين والشوق والتقدير، فلأهله
الفضل في ذلك، ولأبنائه النبلاء ، وإنه لا تضيق بنفسها الصحراء، ولا تتأفف من ثباتها
الجبال، ولا من شساعتها المسافات، ولا تغتر النخلة بصبرها على الرياح والجذب، ولا
بانسيابها الوديان والجداول في الأرض اليباب، ولا يضيق المكان بأهله، ولا تعبأ الوهاد
بالعابرين مثلي، ولا القمم بالمتسلقين السذج، وكل مسبح لربه في صمت ومداومة ورهبة،
وتلك الأيام يتداولها الناس،في صبر أو تصبر،شكر أو تشكر، وحلم أو تحلم. وإنه لا كفران لأنعم الله، وإنه لحَمْد وتحميد،
وإنه لاعتبار وتوحيد.
الإفصاح
السادس
البحث
عن بلاغة التأويل
مثل مطر خفيف في ليلة دافئة ومقمرة، باغتت
حقيقة التأويل هدوء الصحو، وفي لحظة صفاء خامرتني بديار الجنوب فكرة بلاغته، لاطفَتْ
الذهنَ مدة قصيرة ، وأتعبته والبدن زمنا طويلا . لن أكون مغاليا إذا قلت إن قضايا التأويل ومشكلاته رافقتني
لأزيد من عشرين عاما، حيث ابتدأت
صغيرة خلال سنوات الإجازة ، بوضع فكرة
مشروع ممتد ومتطور،قدرت وقتها أن يستكمل عناصره بأطروحة واجتهاد في الموضوع ، ثم يكون انطلاقة حقيقية
رصينة لمشاريع أخرى، موضوعها طرح بدائل عملية ناضجة لقراءة
النصوص، تنطلق من عمق التراث العربي
الإسلامي، وتستفيد من الاجتهادات الغربية
والعربية الحديثة، بحثا عن بلاغة جديدة لفهم النصوص وتحليل الخطابات يكون لها بعد و امتداد عربي. اِمتصتني مراكش مدة سنة لاستكمال التكوين، ثم ابتلعني
الصحراء وجبال آيت عطا مدة غير يسيرة من الزمن . هذا التأويل
المكاني الذي لم أتهيأ له ، منحني صفاء
وتفكيرا هادئا رغم البعد عن المكتبات . هناك عنَّفني التأويل
وربطني إلى وهج الكتابة، وناعورة الحروف،
وبدأني شطحه وحاله . فوسعت من
مقروءاتي عربية وأجنبية . وبعد مدة من التأمل زادتها وطأة المكان
وحرارته اشتعالا، انتقلت إلى الرباط لتهييء دبلوم الدراسات العليا وكان الموضوع:
النص واستراتيجيات التأويل.
الإفصاح
السابع
قدمت لي هذه المرحلة إضاءات كافية لاقتحام الموضوع من
جديد، وتوسيعه، ودخول مغامرة الاقتراح الشائكة، فعاشرني قلق التأويل وعذبتني
قلاقله، و وسواسه وشكوكه التي لا تنتهي،
فحينا يلتحم عندي في فكرة مقنعة وواضحة ، وحينا ينحل في
صدري مثل الحبل الراشي ؛ كانت طرقه
تتناسل من معان عندي ، وكأني بها في كل
مرة انطلاق وانتهاء، ثم انطلاق ثان يفر من
عجز يلاحقه، مسارب ماء توالت في لحظات
تدبر عميق ، ثم تَوَلَّت ، فكأنها ما توالت
وكأني بها ما تَوَلَّتْ . وكأني ما
قدرت ولا تدبرت لمَّا وجدت نفسي وإياها فجأة نغادر المكان، إلى هدوء البحر أو هديره ، حيث كنت أخلو إلى أفكاري وأصدقائي
المؤولين، قدامى ومحدثين ، أنصت إليهم بعمق، إلى أن استوت خرائط بلاغة الـتأويل في
روحي، فعدت لأسرج حصان تأويليتي
المتمنعة بهَمٍّ أثقل وحلم أكبر .
وكانت الصهوة من شوك ، والعنان من صَبر كالصِّبْر أطول وأقسى، وهيام صوفي بالكلمات تركد بي
أفراسها إلى عوالم في التأويل لا أطيقها،
وأخرى لا تطيقني، أتملى عبارات المؤولين
البلغاء في عبور ربيعي مزهر، مثل من يلقي
حجرا في بئر عميقة ضاجة بالأسرار،و
يتسمع صدى بلاغته . تخطفتني في البدء ما
باليت بها، حتى رسمتها أخيرا بالشكل الذي أريد، وأصبح لبلاغتي وَسْم وشكل وحال،
بعد أن لم تكن لها صفة تعرف بها .
تولدت عن
رحلة المكان والمنفى بهجة غريبة
سميتها " بلاغة التأويل"، التقينا
كما تلتقي الأقدام والطريق، أيّ منا يرسم الآخر ويحفظ له سر العبور ؟ كنت
أنا الراسم وهي المرسوم، ولم نفترق بعدها، كانت عشقا للموضوع، بل اختلابا واستلابا لعقلي وحريتي، غيبت فيها نفسي، وتغيبت هي في
وقتي وكل أحوالي. وعبرها حاولت جاهدا
الاستئناس والإنصات إلى
النصوص والخطابات،عَلِّي أظفر منها بما يبني جسدها وكيانها، فكانت مثل الجبال
من حولي شامخة المطامح والغايات، لا يزْوَرُّ حصان مواعدها، لها كف من محيط وسبعون خريفا من سفر . يعليني مدها وركبها الهادي لألملم شظاياها المنثورات ، وكَمْ هي الأشياء
التي ماتت قربي وفيَّ لتحيا في الكلمات .
والتي انتهت بكتاب " التأويلية العربية" المنشور في بيروت،
والحائز على جائزة المغرب الكبرى للكتاب.
[1]
_ بلاد الجنوب الشرقي المغربي نسبة إلى واد
درعة المعروف.