تازارين...السفر والمجهول

محمد حفيضي
في 16 شتنبر 1995 كان علي أن التحق بتا زرين، إنه الموسم الدراسي الثاني لي في هاته البلدة المروعة . ليست كذلك لأني أكرهها أو أحس شيئا تجاه مواطنيها، لكنها مرعبة لأنه لا أهل لي فيها .أسرتي الصغيرة المكونة من خمسة أفراد هي ملاذي الأخير كلما ضاقت بي الدنيا وافترسني الضياع.
إنه ضياع حقيقي، أن أترك طفولتي وأصدقائي وعاداتي وتقاليدي ولغتي، ليرمى بي في بركة مليئة بأسماك غريبة عني.
التلاميذ في الفصل يصرون على مناداتي "بالعروبي" ويرطنون بكلام لا أفهمه، وعندما أتساءل يضجون بالضحك. في البداية كانت تزارين بالنسبة لي سجنا كبيرا، فضاء يغص بالخناجر،وكانت الطعنات غادرة، متتالية وعميقة.
كنت مملوأ بالغضب، قابلا للانفجار في أي لحظة، أبحث عن متسع لهدهدة ذاكرتي وإرغامها على النسيان، أتوسلها ألا تستحضر وجه جدتي كيلا أصاب بالانهيار، فبكاؤها الواضح عند توديعي لازال يرن في أذني، وصورتها طازجة في ذهني كالفجيعة، لأنها بكل صراحة كانت كل شيء في حياتي ،أتذكر مواويلها وهي تغني لي فأوشك على الحمق، ولكم أن تتصوروا إحساس طفل فقد ما يعتبره كل شيء.
عندما دخلنا الفصل في الحصة الأولى الخاصة باللغة العربية، كنا ثلاثة فقط،وكما تجري العادة اعتقدنا أن الأستاذ سيقوم بإخراجنا إلى أن نكثر ونأتي، لكنه لم يفعل، سلمنا ورقة عبأناها بمعلومات عنا :(الاسم،مهنة الأب،جديد أو مكرر..) قدم لنا نفسه ء ويا للغرابة ء أول أستاذ يقوم بهذا :محمد بازي، أستاذ الثانوي لكنني سأصاحبكم هاته السنة في السلك الإعدادي.جئت من مدينة أكادير.ثم كتب قصيدة على السبورة تناوبنا على قراءتها ثم شرعنا في تحليلها.
لماذا اخترتَ نص" أم الأسير" لأبي فراس الحمداني ،هل لعلمك السابق بأنني أسير البلدة ؟ أم أنتَ الآخر تشكو إلينا همك وحنينك لوالدتك ؟ مرت الحصة في غاية المتعة والحق أن أحد أصدقائي قال لي: هامسا يبدو هذا الأستاذ لطيفا وخجولا.
هل تذكر ملامحك حينها ؟ كنتَ بشارب قصير، وابتسامة راسخة لم تسقط عن وجهك طيلة السنوات التي عرفتك فيها ،لقد أعطيتنا الإحساس بالأمان و الرغبة في الانطلاق، خصوصا أنني كنت مهووسا باللغة العربية.
ونحن في الثانية إعدادي عرفنا معنى الطباق و الجناس والكناية والاستعارة والتناص...ميزنا بين الشعر العمودي والحداثي، عرفنا الفرق بين امرئ القيس والسياب، كل هذا لم يكن موجودا ضمن المقرر، فعلى العكس كنتَ تحتج بأن الكتاب المدرسي بئيس ومستفز وخال من أي معرفة حقيقية، وكنتَ تأتي بنصوص من عندك ، تغرقنا في المتعة وتجعل الحصة تمضي بسرعة البُراق...
لماذا كنت تبتسم دائما ؟ ولماذا لم تستعمل العصا يوما ؟ أسألك لأن أستاذ الرياضيات كان جلادا حقيقيا وأستاذ الفرنسية قال له
éموتيچوني فروون
لا تعرف شيئا).قدمت هذه المقارنة لأن المواد السالفة كانت أساسية في تلك المرحلة وكانت لنا فيها حصص يومية.
في أول عطلة دراسية صادفت 06 نونبر 1995 اقترحتَ علينا المساهمة بثلاثة دراهم لمن أسعفته ظروفه، عدتَ بعدها محملا بمجموعة من الكتب والروايات أذكر منها : مؤلفات جرجي زيدان وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ وكتاب يحمل عنوان أفكار ضد الرصاص، نسيت كاتبه للأسف . كان نصيبي من التوزيع الاعتباطي رواية 17 رمضان التي تحكي عن مقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على يد عبد الرحمن بن ملجم.وبعد ذلك أتى الدور على مؤلفات أخرى، وكنتَ سخيا معي إلى أبعد الحدود، لن أنسى يوما ذلك الكتاب التحفة : تحولات الجحش الذهبي الذي بحثت عنه في كل المدن التي زرتها ولم أعثر عليه لحد الآن
.
لذلك أقر بأنك من الأوائل الذين زرعوا في حب المطالعة ، تأكد لي ذلك عندما كتبتَ لي مرة ورقة نصحتني فيها بشراء الكتب التي تتضمنها ومنها : ثلاثية نجيب محفوظ ،شرق المتوسط، بعض روايات حنا مينة.
في نهاية أحد المواسم الدراسية سلمتَني الأعمال الكاملة للسياب، ذلك المجلد الأحمر الصادر عن دار العودة الذي يضم عشرة دواوين، احتفظت به لشهور ولم تسأل عنه إلا بعدما أرجعته لك عن طيب خاطر، حقيقة راودتني فكرة السطو على الديوان لكنني أقنعت نفسي بعدم فعل ذلك.
لقد كان ذلك المجلد السبب الرئيس في جعل السياب ينساب إلى دمي، ومحى تلك الصورة القاتمة عن البدر والتي أعطاها لي أستاذ آخر عنه، حيث وصفه ذات يوم بالملحد و الشيوعي الذي تمذهب بمذاهب كفرية، وعندما طرحه المرض على الفراش صار يستغيث : لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم.
إن الزخم الكثير من الذكريات و الأحداث المشتركة جعلتني أطلق العنان لقلمي، الشيء الذي لربما سيجعلني أكتب خارج أي جنس محدد، فلولا الخجل من أن يوقفني رئيس الجلسة لظللت أحكي لساعات عن مدى الحب و الاحترام الذي أكنه و الأفضال التي لا أنكر بأنني مدين للدكتور بازي بها.
أقول بأنه عندما يقسو علينا المكان، فإنه يفعل ذلك لغربته عنا، ولغياب أحبتنا فيه، لكن تزارين لم تبق بلدة منفى كما اتهمها البعض، انه الوعاء الذي وجدتُه قالبا مناسبا لاحتضاني، ففيها اكتشفت المرشد و المصحح، و الدفء الذي كنتُ أبحث عنه .فوهبتْني إمكانية اللقاء بالدكتور بازي.
لم تقتصر علاقتي بالسي محمد بازي عند حدود ثانوية سيدي عمرو، بل تعدتها إلى البيت أيضا، إذ أصبح صديقا عزيزا للأسرة وقد جر علي هذا حنق بعض التلاميذ الذين يربطون بين النقط العالية التي أحصل عليها و العلاقة المتقدمة التي تربطني به خارج قاعة الدراسة.
من مميزاته أنه لا يتحدث إلا اللغة الفصيحة، وردود فعله تجاه الشغب لم تكن غاضبة، ولم تتسم بالزجر أو الطرد من الفصل، لكنها بالكلام الغارق في المعنى، والنصح المفرط في الأخوية، وكانت له قدرة خطيرة على الإضحاك، كما أن بعض التلميذات يصفنه خلسة بالشاعر، أقصد هنا الممثل الهندي.
عندما انتقلت إلى مركز تكوين المعلمين بالرباط، كان أول من رد على رسائلي، قلت له ذات كتاب : هاأنذا أراسلك وبي خوف من قلمك الأحمر، فأجابني : "لا شأن لك من الآن بقلمي الأحمر أو الأخضر فلقد أصبحتَ منا وقريبا ستستعمله مع تلامذتك، لا عليك، اُكتب وأكثر من القراءة، واستغل قربك من المعرفة هناك في العاصمة، فغدا يطوحون بك في منطقة معزولة نائية ضارية" . وكذلك حصل فقد قذفوا بي إلى تغبالت، وأثناء ذهابي إليها لابد من المرور عبر تازرين، وحتى أسرتي لم تعد هناك، وبين الدروب و الأزقة كنت أبحث عن طيفك فأعود بقبضة جمر، زرت المؤسسة ولم أعثر فيها على شيء منك إلا الكلام الذي يقال عن الكرماء : بعد الانتقال ينقطع عمل بن ادم إلا من ثلاث :صدقة جارية، علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.

صدقاتك الجاريات تتجول بين المقاهي و الدروب، علمك واضح وطافح، و الذين يدعون لك لازالوا يفعلون لحد الآن . أقول هذا لأنني أول ما ألقاهم يسألوني عنك فأجيبهم : إنه بخير ولكن عبث الحياة أقوى منا جميعا لذلك لا أراه إلا لماما...
العنوان مقترح من قبل المجلة.

اترك تعليقا: