تقديم منسق الكتاب
الحسين اخليفة                                                                               
                       
يحمل هذا الكتاب في طياته دراسات وأبحاثا قيمة لثلة من الباحثين الأفذاذ الذين التأموا في لقاء علمي -يوم السبت 06 يوليوز 2019 بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمدينة إنزكان- حول العقل التأويلي العربي وأسسه التساندية والتقابلية والتوسُّعية في المشروع النقدي والبلاغي والتربوي للباحث الأكاديمي الدكتور محمد بازي، فارس البلاغة التأويلية العربية الجديدة. ولا غرو أن ينعقد حدث علمي من هذا القبيل، إن كان مداره مشروعا فكريا ضخما مبنيا على ما يقرب من عشرين مصنفا راكمها الباحث. وغير خاف على المتتبع أن المشروع استأثر باهتمام الدارسين والباحثين في مقامات نقدية ومناسبات احتفائية عديدة، احتضنتها جملة من المؤسسات الجامعية والمراكز العلمية المغربية، الأمر الذي يؤكد أهميته كمّا ونوعا.
لقد أبان الباحث في كتاباته ومحاوراته العلمية عن علو كعبه في مجال تخصصه، ومقدرته الفائقة على البناء الراسخ لمشروعه العلمي، والمداومة على توسيعه وتجديده وإثرائه بالسجالات والنقاشات الجادة التي أثارها في الأوساط الأكاديمية والمدرسية ولا يزال. ثم إن الباحث متسم بشخصية قوية جعلته يقرأ بعين نقَّادة وبصيرة نفَّاذة مصادر التراث الأدبي واللغوي والفلسفي والشرعي العربي، ومظانّ الفكر البلاغي والتأويلي الغربي وامتداداتها العربية، رافعا الحُجب عن مواطن جدتهما وأصالتهما ومكامن ضعفهما وقصورهما، دونما انسياق إلى الينبوع الأول متعصبا له مدافعا عن رموزه ونماذجه، أو انجراف متحمس نحو الثاني منبهرا باتجاهاته ومفاهيمه واقتراحاته، بل يقف في منزلة بين المنزلتين متأملا متدبرا، ينشد ضالته المعرفية حيثما وجدها.
ومن نافلة القول إن مشروع الباحث المحتفى به في هذا اللقاء العلمي، يستمد قيمته العلمية من عمقه المعرفي، وسعة أفقه الفكري، وغنى عتاده المنهجي، ومراوحته بين المرامي التنظيرية والمساعي التطبيقية. ولا أدل على ذلك مما يتسم به صاحبه من دربة ومراس على مستوى التفكير التنظيري، والنحت المفاهيمي والاصطلاحي، والتخيُّر الذكي للأدوات المنهجية والإجرائية الكفيلة بتنزيل ما يسطِّره نظريا على أنماط جمَّة من الخطابات والنصوص على اختلاف ألوانها وأطيافها الأجناسية.
من شأن هذا المشروع النهضوي -وحالته تلك- أن يسهم إسهاما قويا في ضخّ دماء جديدة في شريان الفكر التأويلي العربي، ويفتح في وجهه طرائق قِددا، تنحو نحو التجديد والتحديث والاستجابة لما يقتضيه المنجز النصي والخطابي قديمه وحديثه؛ من تنويع في آليات التحليل، وتوسيع في مداخل الفهم والتأويل.
وتأسيسا عليه، فإن صولات الباحث محمد بازي وجولاته الفكرية في مجال تخصصه لما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، بمُكنتها أن تجعل منه السندباد البحري؛ في بحثه المعرفي الدؤوب، وقلقه الفلسفي الكشَّاف، وتشوّفه الصوفي الظمآن، وسفره في "الأبحر المعرفية السبعة"، بحثا عن غنائم جديدة يثري بها رؤيته الفكرية التي تشغله ليلا ونهارا. فقد ارتاد آفاق الموروث الفكري العربي مؤصِّلا لما يقترحه من فهوم وتصورات ورؤى بلاغية وتأويلية، فأدهشه ما عاينه هناك من مظاهر الحياة والحركة والغنى والمرونة والسعة في مفاهيم القدماء وتصوراتهم، مشيدا بتفكيرهم البلاغي الإنتاجي والتأويلي الفتَّان، مثلما حاره أمر ما آلت إليه اليوم ثروتهم المعرفية وذخيرتهم البلاغية من جمود وتحنيط وعقم وجفاء.
ثم إنه عبَر الضفة الأخرى بحثا عن زاد معرفي إضافي يمكنه من بعث الفكر التأويلي العربي المعاصر من مرقده، ومدّه بأسباب القوة للنهوض بمساعيه الإنتاجية والتحليلية والنقدية، مسترقا السمع والنظر في الأشواط البعيدة التي قطعها الفكر الغربي في إطار ما يدعى البلاغة الجديدة، باتجاهاتها وامتداداتها الشعرية والسردية والحجاجية والقرائية والتداولية المعروفة.
تلك نظرة عجْلى عن معالم مشروع الباحث الدكتور محمد بازي الذي استقطب إليه في اللقاء الاحتفالي السالف الذكر زمرة من الباحثين والدارسين، ذوي انشغالات واهتمامات علمية متباينة؛ نقدية وبلاغية وتأويلية وتدريسية وتربوية. فجاء الكتاب -وفقا لذلك- مكونا من أربع عشرة دراسة، متراوحة بين البعدين النظري والتطبيقي، تحمل كل واحدة منها بصمة صاحبها الشخصية، وتعكس وجهة نظره، وتمثله الواعي للمشروع الذي يشكل بؤرتها الناظمة.
تحدث منسق فريق علوم الخطاب ومناهج تدريس اللغات والآداب بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدكتور عبد العاطي الزياني، بكلمة شاعرية مسجُورة بمشاعر النبل والتقدير، لائقة بمقام المحتفى به الدكتور محمد بازي. اختزن فيها دلالات اللقاء الاحتفائي وأبعاده العلمية والإنسانية. وقام صاحب المشروع بإلقاء أضواء كاشفة على العالم المعاصر وما يقتضيه من بلاغة جديدة مواكبة، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في قواعد البلاغة العربية التقليدية، وتحديث مفاهيمها وآلياتها حتى تساير الركب الحضاري والثقافي والعلمي المتجدد.
أما عبد ربه فقد انتبه إلى "الإبداعيَّة" المميزة لكتابات الباحث ودراساته، وهي تمثل في حقيقتها ملمحا مشرقا مميزا، جعلت مشروعه ينأى عن مظاهر التكرار والتقليد والاستنساخ، ويتوق بالمقابل إلى التأصيل الواعي المقرون بالتجديد والتغيير والانفتاح والتجاوز والخرق، ما دامت المعارف والأفكار والعلوم ما تفتأ تتجدد وتبحث لنفسها عن آليات إنتاجية جديدة.
وشد بنا الرِّحالَ الباحثون عبد اللطيف الوراري والحسين أوعسري وميلود عرنيبة في سَفرات ممتعة إلى واحد من كتب بازي الذي هو "البنى الاستعارية"، فمكننا الأول من تأمل المسافة الدقيقة الفاصلة بين البعد النسقي في المنوال الاستعاري والبعد العملي التطبيقي الاشتغالي وفق مبدأين؛ أحدهما تصوُّري يقدم الإنجاز الاستعاري، باعتباره فعلًا استراتيجيًّا يقوم على اختيار الاستعارة منوالًا للتعبير والإبلاغ وصناعة الخطابات، والآخر تجريبي يتوقف عند بعض مظاهر استعارة المفاهيم والنظريات وهجرتها.
كما أسعفنا الثاني على الوقوف مليّاً عند بعض المفاهيم الجديدة التي يعود الفضل إلى مؤلف الكتاب في اشتقاقها ونحتها، مثل "الاستعارة المنوالية الجوالة"، مما جعله يفتح في وجه البلاغة العربية اليوم تصورات ورؤى وإبدالات محتملة؛ منطلقها الأساس تأسيس معاجم عربية خاصة بالاستعارة. أما الثالث فكان لورقته العلمية الفضل الكبير في تدقيق مفهوم "الاستعارة التأويلية" وضبط إحداثياته ورسم أبعاده التوسعية.
وسرد محمد مساطة من زاويته الخاصة جهود بازي في إرساء تأويلية بلاغية، مستقرئا مشروعه العلمي الرامي إلى صياغة نظرية نقدية، ترتكز في المقام الأول على التساند، والتقابل، وتأويل النصوص والخطابات. في حين قام الباحثون العراقي علي جعفر حسن والمغربي جامع هرباط والجزائري البشير عزوزي، بتنزيل ما صاغه الدكتور محمد بازي من ترسانة مفاهيمية ونظرية ومنهجية تأويلية تقابلية على أنماط من النصوص. إذ قام الأول بتعقب خطوات الباحث المحتفى به في قراءة سورة الفاتحة قراءة تأويلية بليغة، الأمر الدال على الانفتاح القرائي للنموذج التأويلي التقابلي، واستجابة الخطاب القرآني لمقتضياته المنهجية. واشتغل الأول بديوان "على النهج" للشاعر إسماعيل زويرق، فاتخذ من قصيدة كعب بن زهير أنموذجا للتحليل، وخلص إلى أن المقاربة التقابلية تكتنز في تضاعيفها من الأدوات التحليلية والإجرائية الثرة ما يدعو إلى تطبيقها على الخطاب الشعري. وهي النتيجة عينها التي خلص إليها عزوزي في مقاربته ديوان (ملاك رجيم) لمحمّد بوطغّان من الجزائر.
ثم إن الباحث إبراهيم البتراني ساءل مساءلة طريفة كتاب بازي "صناعة الخطاب"، متوقفا عند مفهومين من مفاهيمه الخصيبة، وهما "التطالب" و"التوسع"، واستثمرهما نظريا ومنهجيا في مقاربة الكتاب من مناحيه المختلفة. وحفر الباحث مصطفى رجوان من جهته عميقا بحثا عن الأسس المعرفية للنموذج التأويلي التقابلي، والكشف عن خلفياته النظرية والمنهجية. أما الباحثان عبد الرحيم هروش ومحمد بوعبيدي، فقد تناولا في بحث مشترك استراتيجية التأويل التقابلي وإمكانية تطبيقها تطبيقا مدرسيا على الدرس الأدبي، متوقفيْن عند اللامية الشهيرة لحسان بن ثابت في مدح الأنصار.
هذا وقد تعقَّب الدارس خالد العنكري الـمـُسْتَوَيَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وآليات تساندها وتعاضدها فِي خِطَابِ الشُّرُوحَاتِ الأَدَبِيَّةِ بـِالـمَغْرِبِ، متخذا من مَطْلَع شَرْحِ مَقْصُورَةِ حَازِمِ القَرْطَاجَنِّي لِلشَّرِيفِ السَّبْتِي الذي عاش في النصف الأول من القرن الهجري الثامن أنمُوذَجًا لورقته العلمية. وتناولت الباحثة وهيبة خرباش بالدرس والتحليل -موازاة مع ذلك- كتابه "صناعة القادة في المجال التربوي"، كاشفة عن الحاجة الماسة للمدرسة المغربية إلى القيادة التربوية الرشيدة في ظل ثقافة التغيير.
ولما كان لكل دراسة ميزتها وفرادها، فقد جاء الكتاب عبارة عن لوحات وروضات غنَّاء، تجسد كل واحدة منها ملمحا من ملامح اشتغال الآلية التأويلية البليغة عند المحتفى به. وبذلك تكون دراسات الكتاب قد أبانت عن غنى تجربته البحثية، وضرورة الإفادة منها أكاديميا ومدرسيا في زمننا الراهن. لذا أدعوك أيها القارئ الكريم إلى تصفح الكتاب والإفادة منه.
ولا أخفي سعادتي الغامرة، وأنا أتشرَّف بتنسيق أعمال هذا الكتاب وتقديم مواده وإعداده للنشر؛ فهو ثمرة لمجهود علمي جماعي مسبوق بجهود أخرى لا تقل عنه أهمية، كان لفريق البحث في علوم الخطاب ومناهج تحليل اللغات والآداب الفضل في احتضانها وتأطيرها، والتشجيع على طبعها ونشرها تحت القيادة الرشيدة لإدارة المؤسسة، وتعاون أطرها الإدارية والتربوية الأكفاء، وإسهام طلبتها الأساتذة الأعزاء، وجهد مصمِّمه ومهندس غلافه ذ. أبو الحسن الحسين أمرير.
إن اللقاء العلمي والكتاب المتمخِّض عنه، ليُعدان شهادة عرفان من إدارة المركز وفعالياته، وفريق البحث وأعضائه، وأصدقاء المحتفى به، وعموم الغيورين على العلم والمعرفة، وعربون محبة وتقدير لمكانة الباحث محمد بازي، وقيمة مشروعه العلمي في زمن تلاشت فيه ثقافة الاعتراف بالجميل لذوي الفضل من العلماء، وشاع فيه تبخيس الذات العربية والتنكر لاجتهاداتها العلمية وإضافاتها الحضارية الرائدة.
فإلى هؤلاء جميعا الشكر الجزْل والنُّبْل الوفْر، والحمد أولا وأخيرا لله رب العالمين.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: