محمد بازي: نحو بلاغة تأويلية عربية ([1])


                                                                                        مزايط مولود هيد الله 
باحث في التأويليات الحديثة/ كلية اللغة /مراكش
تقديم
 إن الاحتفاء بمشروع الأستاذ بازي، هو في الواقع احتفاءٌ بالثقافة والفكر المغربيين، وإيمانٌ بقدرتهما على العطاء والإبداع والريادة وبقدرتهما - أيضا - على تجاوز نوائب الدهر، فالسَّنة التي ظهر فيها عملا الأستاذ بازي، تعد بحق سنة حزينة على الثقافة والفكر المغربين، ففيها فقدنا أعلاما أفذاذا: فقدنا محمد عابد الجابري، فقدنا محمد أركون الذي كان يقول إذ سئل عن جنسيته: إنه كائن مغاربي لكنه اختار أن يكون دفين المغرب، وفقدنا الشيخ بن الصديق أحد كبار علماء المغرب شيخ الزاوية الصديقية بطنجة، فقدنا الروائي المعروف إدموند عمران المالح، والكاتب الكبير عبد السلام البقالي...
نقول إذن: إنه إن كان الزمن الثقافي قاسيا علينا في خسارة هذه الرموز الثقافية المغربية، فإن الأرحام المغربية معين لا ينضب بالعطاء، وإذا كانت سنة 2010 عرفت أفول نجوم مغربية لطالما ملأت سماء الثقافة العربية بنظرياتها وأطروحاتها، فإنها أيضا عرفت بروز نجم جديد هو نجم الأستاذ بازي في مشروعه عن التأويلية العربية... والشيء الجميل في الأستاذ بازي – بالإضافة إلى حفاظه على تلك الخصيصة التي عرف بها العلماء المغاربة منذ القدم، أي القدرة على إنتاج النظريات الكبرى – هو أنه قَدِم إلينا من الهامش وليس من المركز، قدم إلينا من القرية الميمونية بأكادير وليس من الرباط أو فاس، فمستقبل الثقافة  والفكر المغربيين كما نعتقد هو في الهامش وليس في المركز.
في هذه المداخلة، سنعمل على المزاوجة بين أمرين:
1- تقديم وتعريف موجزان بالجهاز النظري الذي يتحكم في المشروع العلمي للأستاذ بازي لإقامة تأويلية عربية على أسس تساندية وتقابلية.
2- تقديم بعض الأسئلة حول هذا المشروع على أمل استغلال حضور الأستاذ بازي لتوضيح ما استغلق علينا أو أثار عندنا بعض الإشكالات.
وسيكون تصميم هذه المداخلة على الشكل التالي :
1- وقفة موجزة مع أبرز الاتجاهات التأويلية قديما وحديثا.
2- هيكلة كتاب التأويلية العربية.
3- قوة الكتاب.
 4- مناقشة أطروحته.
1 - وقفة موجزة مع أبرز الاتجاهات التأويلية قديما وحديثا
 نشأت " الهيرمينوطيقا " أو التأويلية الحديثة بوصفها " فن امتلاك كل الشروط الضرورية للفهم "([2]) مع شلايرمخر، الذي حاول تجاوز الممارسات التأويلية التقليدية التي كانت تُركز في البحث عن التأويل بوصفه بحثاً عن المعنى الحرفي  والمعنى المجازي لرفع اللبس، من أجل وضع الفهم والشروط الضرورية لمقاربة النصوص في مركز الممارسة الهيرمينوطيقية، هذه الممارسة التي ستخرج معه من الاستخدام اللاهوتي لتمسَّ النصوص الفلسفية والقانونية والتاريخية والأدبية وغيرها... 
بالنسبة للاتجاهات التي تميزت في الممارسات التأويلية القديمة، يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الذي يأخذ بالدلالة الحرفية، والاتجاه الذي يأخذ بالمعنى الباطني، والاتجاه التوفيقي. ففي الثقافة الإسلامية يمكن التمثيل لهذه الاتجاهات الثلاثة بـ: الظاهرية الذين أخذوا بظاهر النص، والإمامية والصوفية الذين أفرطوا في التأويل، والمعتدلين من الأصوليين السنيين الذين اعتمدوا المرويات الصحيحة والذين وضعوا مجموعة من ضوابط التأويل مثل وجوب مراعاة المساق والسياق والمقاصد ورفض التناقض.
في التأويلية الحديثة، يمكن التمييز ـ حسب محمد مفتاح ـ بين مجموعة من الاتجاهات : فهناك أولا الاتجاه الأنثروبولوجي السيميائي الذي حافظ على الرهان الفلسفي القديم والمتمثل في أن المعنى الباطن أهم من الظاهر وذلك من خلال مجموعة من الأزواج الأخرى: المعنى الظاهر /المعنى العميق، المعنى البارز /المعنى الأساس، التشاكل المعطى/التشاكل المبني ...لقد تحولت هذه الثنائية إلى ما يسمى تعدد المعاني والتي أقام عليها فرانسوا راستيي  أطروحته التي ترفض هيمنة مرجعية ما سواءً كانت دينية أم طبيعية...
وهناك ثانيا التيار التفكيكي الذي يمثله دريدا وبارت، فقد تخلص من القيود التي وضعها الاتجاه السيميائي، واعتمد على أسس فلسفية رافضة للثنائيات القديمة " فكل نص لا يقبل أو لا يحتوي تأويلات مختلفة، ولكنه يقبل تأويلات متناقضة يلغي بعضها بعضا ".
وهناك أيضًا التأويلية الفلسفية التي تجاوزت إشكالية النص إلى محاولة فهم الإنسان وأوضاعه، وإمكانيات تجربته، ثم التفكير في أزمة العلوم الإنسانية وأسسها...(هايدغر، غادامير، هابيرماس، بول ريكور).
وبالنسبة للاتجاه المقصدي فإنه حدّ من النسبية وتأويل النصوص على أسس موضوعية، فقد افترض هرش أن معرفة مقاصد المؤلِّف هي التي تحدد معنى النص، لأن المقاصد هي العرف المميز الملائم .
أما الاتجاه الأخير الذي وسمه محمد مفتاح بالاتجاه التركيبي خصوصًا في مرحلة متقدمة من المشروع الفكري لأمبيرتو إيكو، فقد جاء مشروع إيكو التأويلي كرد فعلٍ على مقولات الفكر التفكيكي التي أصبحت تميل إلى منح المؤوِّل الحرية الكاملة في تأويل النص، وهي ترى أن كل تأويل ليس إلا انعكاساً لأهداف المؤوِّل ومقاصده وتوجهاته الخاصة، إن الفكر التأويلي التفكيكي ينطلق من مقولتي "تفكك المعنى " و" المعنى المرجأ" لكي يخلص إلى أن المعنى الحقيقي للنص هو لا معناه وفراغه من المعنى، مادام أن المعنى الذي نعطيه يستمر دائماً في إثارة معانٍ أخرى. ومادام أنه ليس ثمة معنى نهائياً ومطلقاً ومتعالياً فإن كل القراءات والتأويلات مشروعة...
أما إيكو فإنه وإن كان يؤمن بتعدد القراءات والتأويلات، فإنه لا يقبل بأن تكون كل القراءات مقبولة، فهناك مقاييس وقواعد وحدود des limites معينة تحكم عملية التأويل. وهذه المقاييس وتلك القواعد والحدود هي التي جاء كتابه les limites de l'interprétation  ليبسط النظر فيها.
إن الغاية الكبرى من هذا الجرد الموجز لأبرز التيارات التأويلية قديمها وحديثها، هو محاولة موقَعة مشروع الأستاذ بازي، والتعرف على الأصول الإبستمولوجية التي تحكم ممارسته التأويلية. وسنعود لهذه النقطة عندما سنتوقف عند قوة العمل.
2- هيكلة الكتاب
بنى المؤلِّف كتابه "التأويلية العربية" على سبعة مفاتيح تقديمية وأحد عشر فصلا وخاتمةٍ بثمانية أقفال وقفلٍ مفتاح.
بالنسبة للمفاتيح السبعة فقد خُصِّصت لتحديد بعض مؤشرات الأساس النظري الذي اعتمده الباحث في تشكيل التأويلية العربية، حيث أوضح الإشكالات التي واجهت التأويل، والمطبّات التي وقع فيها بعض المؤوِّلين، وبيَّن أن صياغة مبادئ بلاغة تأويلية هي الشغل الشاغل لكتابه، هذه البلاغة التأويلية التي تقابل البلاغة الإنتاجية، تقوم على محورين:
الاشتغال التساندي بما هو تنظيم للممارسة التأويلية من خلال التفاعل بين ما أسماه المؤلِّف "الدوائر الصغرى" وبين "الدوائر الكبرى".
الاشتغال التقابلي: القائم على " التقريب بين العناصر والمستويات ذهنيا بأي شكل من الأشكال... وإحداث تواجه بين بنيتين أو وضعين أو موقفين..." ([3]).
وتلي المفاتيحَ السبعةَ الفصولُ الأحدَ عشرَ، حيث انصب الفصل الأول على كيمياء التأويل، سعى فيه صاحبه إلى إعادة بناء المفهوم في معناه ودلالته من خلال العودة به من جهةٍ إلى أصوله، ومن جهةٍ أخرى بمراعاة استجابته للتصور الذي يقترحه المؤلِّف، فالتأويل الذي يتصوره المؤلِّف "تفاعل معرفي بين بنية ذهنية وبنية نصية وبنية سياقية مؤطِّرة وبنية من النصوص الغائبة والعلوم المرجعية " ([4]).
أما الفصل الثاني فقد انصرف إلى رصد اشتغال تأويلية الارتداد والامتداد، حيث إن التأويلية التي ارتضاها "النسق التأويلي العربي الإسلامي، مؤسَّسَة على بلاغتي الارتداد الفعال نحو المرجع المؤطّر: الديني، والعقدي واللغوي والنحوي والبلاغي والتاريخي، وبلاغة الامتداد في اتجاه استقصاء المعنى وتكوينه، وما يرتبط بذلك من اجتهادات وفروض وتخمينات، فيما لم ترد فيه نقول " ([5]). أي نحو الغاية الدلالية للنص المؤوَّل
أو مقصده.
وفي الفصل الثالث الذي عنوانه " صناعة النص وصناعة التأويل: أدوار المساق والسياق "، يقارب الباحث قضية التعدد الدلالي في علاقته باللغة ومشكلات الفهم، وأدوار السياق، من خلال مجموعة من الوقائع الأدبية التي يحتفظ بها التراث العربي. إن القراءة التأويلية الخاصة بالتلقي الأدبي، كما يراها الأستاذ بازي، هي محصلة تفاعل مجموعة من الأنساق المختلفة والقصديات المتداخلة: فهناك قصدية المنتج وقصدية النص وقصدية القراءة المؤوِّلة، وقصدية اجتماعية أيضا مادام " أن المعنى المبني ... هو نتاج جديد يتأسس في ظل منظومة معرفية وثقافية معينة "([6]).
في الفصل الرابع الذي عنوانه "معضلة إشكال المعاني"، تطرق المؤلِّف لبعض المظاهر النصية التي تعوق عملية الفهم، وتكون سببا في غموض المعنى،  وما يلزم المؤوِّل من أدوات لإعادة المعنى إلى مستوى من الوضوح والقابلية للفهم والإفهام، وقد حصر المؤلِّف هذه المظاهر النصية في :
1.    الازدواج اللغوي.
2.    البنيات الاستعارية والتشبيهية.
3.    المعاني الحُلي وأفعال التأويل.
4.    دواعي الإشكال وتأويل المشترك اللفظي.
5.    حالات الجهل بسياقات النصوص.
6.    تباين المقاصد وتعذر انصهار آفاق الانتظار.
وفي الفصل الخامس تطرق المؤلِّف لقضايا بناء المعنى واستراتيجيات تلقيه. وبالنسبة لبناء المعنى فقد تحدث الأستاذ بازي عن المعنى بوصفه الشيء الذي عناه العاني أي المُنتِج، أي ما دار في ذهنه ويحتاج إصداره إلى بلاغة إنتاجية لديه، بلاغة تقوم على مجموعة اعتبارات على رأسها اجتناب أسباب الإغماض ومراعاة مقتضيات الأحوال المقامية. 
أما فيما يتعلق بتجليات المعنى من خلال استراتيجيات تلقيه، فقد أعاد المؤلِّف استعراض أطروحته في تأويلية التساند التي تجعل القارئ منتجا بليغا يخلص إلى معان مقبولة ومنسجمة اعتمادا على علوم لغوية ونحوية وبلاغية، وعلى معرفة بكيفيات صناعة النص الأدبي وكيفية إدراج المعارف الموسوعية التي  يتوازى النص
أو يتناص معها. كل ذلك يتم في إطارِ تعاقدٍ تأويلي يستحضر - بالإضافة إلى البلاغة الإنتاجية والبلاغة النصية والبلاغة التأويلية - سلطة المنظومة الثقافية التي تنتمي إليها الأوضاع الاعتبارية للنص ومنتجه ومؤوِّله. 
وفي الفصل السادس سعى المؤلف إلى رصد تساند الآليات التأويلية في خطاب التفسير من خلال تفسيرين معروفين في الثقافة الإسلامية، هما: " تفسير الكشاف" للزمخشري، وتفسير القرآن العظيم لعماد الدين ابن كثير من خلال رصد قنوات بناء معاني نص الفاتحة على مستويين:
- مستوى الدوائر الصغرى: القائمة على البنيات النصية كاللغة والصرف والنحو والبلاغة والقراءات.
- مستوى الدوائر الكبرى: القائمة على البنيات النصية الغائبة أو الموازيات النصية كالنصوص القرآنية والحديثية والخبرية والشعرية والإسرائيليات والأمثال والأقوال.
في الفصل السابع يستمر الباحث في اشتغاله التطبيقي على خطاب آخر، هو خطاب الشروح ممثَّلا في شرح العُكْبَري لديوان أبي الطيب المتنبي. وقد وقف الباحث على الآليات التأويلية النصية أو الدوائر الصغرى التي اعتمدها العُكْبَري في شرحه والمتمثلة في المداخل المرتبطة باللغة والنحو والاشتقاق والبلاغة، ثم بين الآليات الخارجية العاملة في هذا الخطاب كالمناسبات ومقامات الخطاب والتأويل عبر الأشباه والنظائر ...
في الفصل الثامن يعزز الأستاذ بازي جهازه النظري، ويطرح في سياق بنائه المنهجي لمفهوم المستويات القرائية ملامحَ منهاجية التأويل التقابلي التي تعد تتميما للنموذج التساندي المقترح. وبعد التأكيد على أن الكتابات التأويلية قديمةً وحديثةً لم تكن مسعفة للباحث لإقامة صرح نظري قوي فيما يتعلق بالتقابل سواء من جهة بلاغة الإنتاج أو بلاغة الخطاب أو بلاغة التأويل .
إن التقابل من وجهة نظر البلاغة التأويلية يقوم على مجموعة من التقابلات الثنائية، فهناك:
1.    التقابل النووي الرئيس، والتقابلات الاستتباعية التفصيلية .
2.    التقابلات النصية المؤطَّرة والتقابلات السياقية المؤطَّرة .
3.  التقابلات الصغرى  (التخالف، التناظر ...) والتقابلات الكبرى  (تقابل الفقرات أو المقاطع أو تقابل النصوص بنصوص أخرى ...)
4.    تقابل مقصدية المُنتِج  لمقصدية المؤوِّل .
5.    تقابل المقاصد الظاهرة للخطاب بالمقاصد الخفية .
6.    تقابل أجزاء نصية ظاهرة بأجزاء نصية غائبة ...
يعتبر الفصلان التاسع والعاشر توسيعا وتعزيزا لمنهجية التأويل التقابلي التساندي.حيث قسم المؤلِّف التأويل بالتقابل إلى تقابلات نصية مؤطَّرة وأخرى موسعة. أما التقابلات النصية المؤطَّرة التي بسطها في الفصل التاسع فيمكن التمييز فيها بين تقابلات كلمة وأخرى وبين تقابلات نسق وآخر، فمن النوع الأول نذكر : التقابل النقيضي (الطباق)، التقابل النظيري،، تقابل التشابه، تقابل حال الذوات، تقابل التصدير، تقابل التشارك اللفظي، تقابل الصيغ والأوزان، ومن النوع الثاني : تقابل الإثبات والنفي، تقابل الفاعلية والمفعولية، تقابل التمثيل،  تقابل الخبر والإنشاء، التقابل الزمني، ...وبالنسبة للتقابلات الموسَّعة التي خصص لها الفصل العاشر: فإن المقصود منها كل الأشكال الممكنة التي تتجاوز الكلمة والجملة، لتشمل مستويات أخرى توسع آفاق الإدراك والتأويل، وقد اشتغل الباحث في هذا المستوى على:
- تقابل النص موضوع الفهم بنظائره وأشباهه سواء من إنتاج مؤلِّف واحد أو مؤلِّفين مختلفين.
- تقابل النص بسياقه التاريخي أو النفسي أو الاجتماعي.
- تقابل نصوص الديوان الواحد أو الغرض الواحد.
- تقابلات النسق التواصلي للخطاب.
- تقابل النص والعنوان .
- تقابل الفقرات وتقابل الوحدات والمقاطع .
- التقابل النووي والتقابلات الاستتباعية .
في الفصل الأخير، قدم الباحث دراسة تطبيقية تهدف إلى تقديم مقاربة تأويلية تقابلية وتساندية  لنص شعري لأبي الطيب المتنبي مستحضرا رهان الانتقال بجهازه النظري من التمرينات الجزئية على أبيات مجزأة
أو نصوص قصيرة إلى تطبيقات على نص كامل .
يختم المؤلِّف مصنفه بمجموعة من الخلاصات على شكل أقفال ثمانية حاول فيها التأكيد على قيمة هذا الصرح التأويلي المطروح، مؤكدا في القفل المفتاح أن هذا الصرح يتميز بعدة خصائص : أنه دوراني تساندي انفتاحي تعاقدي تقابلي.

3 - قوة هذا الكتاب
يستمد كتاب " التأويلية العربية " قوته من عدة دعائم:
1- راهنيته وجدواه، حيث إن البحث في التأويل وقضايا فهم النص عموما والنص الديني (القرآني) خصوصا تظل مستجدة ومطلوبة .
 2-  إن هذا العمل وهو يقارب هذا الموضوع الشائك: موضوع التأويل، كان فريدا في مناولته، فلم يلجأ للغوص والتعمق في بحوث الهيرمينوطيقا ونشأتها وإشكالاتها من خلال استعراض مختلف التصورات النظرية المعقدة، بل نحى منحى عمليا ميسرا ...إن اطلاعا بسيطا على كتب مثل "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" لنصر حامد أبي زيد، أو "من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة" لعبد الكريم الشرفي ... ستوضح بجلاء صعوبة التعامل النظري مع قضايا الهيرمينوطيقا، خصوصا في الكتابات الفلسفية الغربية.
 3- لقد تميز  هذا العمل بكونه مكتوبا بلغة علمية أنيقة، بل شاعرة في كثير من الأحيان، كما أنه قُدم بطريقة بيداغوجية مبسطة، حيث تم التوفيق بين التنظير والتطبيق، مع اختيار موفق لمجموعة من النصوص التراثية الجميلة التي أعطت للكتاب لمسة فنية راقية، ويبدو البعد البيداغوجي لهذا العمل بارزا أيضا في تلك المفاتيح والمغاليق، وفهرس مفاهيم تأويلية التساند والتقابل المثبت في نهاية العمل.كما يبرز بشدة في تلك الخلاصات المدققة التي حرص المؤلف على تثبيتها في نهاية كل فصل.
4- جانب آخر من قوة هذا العمل وأصالته يتجلى أساسا في الجهاز الاصطلاحي المعتمد في الكتاب، والذي يبرز مجهودا معتبرا في الاشتغال عليه بالتوليد والخلق والنحت والتركيب. إذ لم يلجأ الباحث إلى تلك المصطلحات الهجينة التي اكتسحت السوق الثقافية العربية، بل اعتمد مصطلحات عربية نقية تبدو متجانسة في النسق الفكري الذي وضعت فيه .
5- لقد حاول الباحث بامتياز المزج الذكي والخفي بين البحوث التأويلية المعاصرة وبين التراث التأويلي العربي، فتميز بحثه بالأصالة والمعاصرة. لقد حاول الباحث بامتياز، ووعيا منه بضرورة تعميق النظر في النظريات والمناهج التأويلية السائدة، المزاوجةَ بين البحوث الهيرمينوطيقية المعاصرة وبين التراث التأويلي العربي، مما جعل هذا البحثَ غنيا بمرجعياته : فهناك الممارسة التأويلية العربية القديمة ممثلة في الزمخشري في كشافه
وابن كثير في تفسيره، والعُكْبَري في شرحه للامية المتنبي، وهناك المرجعيات الحديثة ممثلة في باحثين محدثين من مدارس واتجاهات مختلفة  من أمثال: يول وهيرش وإيكو وتودوروف وريكور... أما من العرب المحدثين فباستثناء محمد مفتاح الذي كان حضوره ملحوظا فإن مساهمة الباحثين العرب في بناء أطروحة الكتاب كانت محدودة، وقد حضر منهم نصر حامد أبو زيد ومصطفى ناصف والجابري .
 وبالرغم من هذا التعدد في المرجعيات المعتمدة، فإننا نعتقد أن هناك حضورا قويا لمشروع
امبرطو إيكو التأويلي - خاصة على مستوى الخلفية الابستمولوجية الموجهة لأطروحته الكبرى -، ويتجلى هذا الحضور خصوصا في النقاط التالية:
أ - اعتماد المقصدية المركبة التي تتجاوز قصدية المؤلِّف وقصدية النص وقصدية المتلقي لتنفتح أيضا على القصدية الاجتماعية والثقافية التي ظهر فيها العمل. يقول الأستاذ بازي: " ليست القراءة التأويلية، الخاصة بالتلقي الأدبي، إلا محصل تفاعل مجموعة من الأنساق المختلفة ونتاجَ عمل شبكات معرفية يتداخل فيها العنصر القصدي في الإنتاج، وقنوات التدليل في النص، وقصدية القراءة المؤوِّلة ودوافعها. ومعنى هذا أن المعنى المبني، بغض النظر عن صحته، موضوعيته، ومقبوليته، هو نتاج جديد يتأسس في ظل منظومة معرفية وثقافية معينة"([7]).
ب - الإيمان بضرورة وضع ضوابط وحدود للتأويل والعمل على تحقيق ذلك، وهذا أمر تنبه إليه إيكو مبكرا حيث عمل على تجاوز النظريات السيميائية الداعية لانفتاح العمل  (مشروع إيكو، رورتي) ولا محدودية التأويل ولانهائية السيميوزيس في كتابه "حدود التأويل". أما الحدود التي وضعها إيكو والتي تتقاطع كثيرا مع مفهومي الدوائر الصغرى والكبرى عند الأستاذ بازي، فيمكن أن نجمل أهمها في:
1-   تحديد النص لحقل الإيحاء .
2-   سمة الكلية أو الوحدة العضوية.
3-   قصد النص  (الدوائر الصغرى عند الأستاذ بازي).
4-   مفهوم النسق لتجنب المتاهات التأويلية.
5-   التشاكل  (التقابلات النصية عند الأستاذ بازي).
6-   المعنى الحرفي (الدوائر الصغرى عند الأستاذ بازي).
7-   الجماعة والعادة  (المقصدية الثقافية عند الأستاذ بازي).
8-   معيار الاقتصاد والجهد الأدنى.
ج – مسألة أخرى يتوحد فيها الأستاذ بازي بإيكو هي طريقة الكتابة، فمن يقرأ أعمال هذا الأخير : opera aperta العمل المفتوح،   letcor in fabula  القارئ في الحكاية، سيلاحظ مدى هوسه بالسفر في التاريخ والأدب، حيث الكتابة تصبح رحلة جميلة نحو البحث في حفريات المعرفة الإنسانية : أدبا وفنونا وفلسفة...وهو الأمر الذي نجده عند الأستاذ بازي إذ يعود بنا كل مرة لمجموعة من النصوص الأدبية الراقية من التراث العربي الجميل.
4 - مناقشة أطروحة الكتاب
في هذه المناقشة سنحاول أن نناوش الأستاذ بازي ببعض الأسئلة التي عنَّت لنا ونحن نقرأ عمله "التأويلية العربية "، وقد جمعنا هذه الأسئلة في ثلاث قضايا : العنوان، التساند، التقابل:
1 - العنوان 
 يثير عنوان الكتاب " التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات " مجموعة من القضايا والأسئلة، نود إشراك القارئ الكريم فيها:
- أولا، عندما نواجَه بمصطلح التأويلية في العنوان، فإننا نستحضر آليًا الهيرمينوطيقا بوصفها  (أي التأويلية) ترجمة رائجة لـ Herméneutique، خاصة أننا لا نجد تحديدا دقيقا في العمل برمته لهذا المفهوم
- بالرغم من أنه المفهوم المركزي في أطروحته - إذ نجد فقط كلاما عاما، ففي الصفحة
15 يقول الباحث: إنها - أي التأويلية - " وجود معرفي لا يفتأ يتوسع ويغتني ويكتمل... يحتمي بها المؤوِّلون وتلجأ إليها النصوص، بحثا عن قراء محتملين، ويطرقها المؤوَّل لهم". ونجد كذلك في الصفحة 69: " لقد سعت التأويلية عبر تاريخها العريق، إلى إيجاد قواعد صلبة تقوم عليها أفعال التأويل...". هذا على عكس التأويل والبلاغة التأويلية والقراءة التأويلية التي نجد للأستاذ بازي فيها وقفات معتبرة. من هذا الاعتبار يصبح القارئ أمام كتاب يتحدث عن "الهيرمينوطيقا العربية "، وهو معطى يجلب معه عديد الأسئلة من قبيل: هل هناك هيرمينوطيقا عربية
أو إسلامية ؟ هل ما قام به الأستاذ بازي في عمله هذا بحث في الهيرمينوطيقا كعلم قائم الذات كما نتصوره اليوم؟ خاصة أن الأستاذ بازي يقول في الصفحة
16 : "يأتي عملنا ضمن الاجتهادات التأويلية الحديثة التي تسعى إلى تمثل الظاهرة التأويلية وإعادة صياغتها بروح جديدة، وفلسفة عميقة ".
يحيلنا هذا النقاش إلى قضية كانت طُرحت على صفحات مجلة "مقدمات" المغربية شتاء  1998، إذ ناقش الأستاذ المختار بنعبدلاوي  في مقاله "ابن رشد والهيرمينوطيقا" دراسة للباحثة منى أبو سنة عنوانها
"ابن رشد مؤسس الهيرمينوطيقا"، حيث عبر الباحث المغربي عن تحفظاته المنهجية والابستمولوجية على محاولة إيجاد أبوة عربية إسلامية لعلم حديث لا يمكن ربطه بالجهود التأويلية للفلاسفة المسلمين إلا بواسطة عملية قيصرية لا تعبأ بشروط نشأة الهيرمينوطيقا وتطورها. وقد بين الباحث أن الدراسات الهيرمينوطيقية المعاصرة تتميز باعتماد ثلاث آليات أساسية:
- اعتماد المقاربة الظاهراتية التي لا تنفصل فيها الذات العارفة عن موضوع المعرفة، بل تغشاها بنوع من التعاطف  sympathieالتي تتحقق فيه المعرفة عن طريق سلسلة من التواطؤات بين النص والمتلقي، عبر مزاوجة بين موقفين : وثوقي dogmatique ونقدي  (الدائرة الهيرمينوطيقة).
- الاستفادة من طرائق التحليل النفسي، وجعل النص يعبر عن نفسه بنفسه. وفق هذه المقاربة، لا يبقى المعنى حبيس اللغة، بل يعبر عن نفسه في الحلم، المتخيل، الرمز.  (ماذا نفعل إزاء نصوص ميثولوجية).
- الاستفادة من الإمكانات التي أصبح يوفرها علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) لفهم الأسطورة، تنميطها والعودة بها إلى بناها الأولية وإدراكها في مستوياتها المتعددة([8]).
إن الهيرمينوطيقا أو التأويلية الحديثة بحسب الأستاذ بنعبدلاوي تختلف كثيرا عن الجهود التأويلية القديمة - عربيها وغربيها - ذلك لأن التراث التأويلي القديم ظل مهتما بالبحث عن المعنى الصحيح والأوحد [مادة أول]، في حين أن الهيرمينوطيقا المعاصرة هي النفي الدائب للمعنى.
إننا عندما نعود إلى كتاب " التأويلية العربية "، لنتأمل في تأويلاته واشتغالاته التطبيقية،  نجد أن الأستاذ بازي كان دائم البحث  عن المعنى الواحد : فتساند العناصر اللغوية وغير اللغوية في تحليلاته، وانفتاح بعضها على بعض، إنما هو في سبيل امتلاك المعنى الأوحد المفقود، وإقصاء لباقي التأويلات، وهذا الأمر لا ينسجم مع التأويلية الحديثة كما نفهما على الأقل، هذه التأويلية التي لا تؤمن بالمعنى الأوحد .
- ثانيا: مسألة أخرى يشير إليها العنوان أيضا، هي مسألة عربية هذه التأويلية التي نظَّر لها الباحث. إن وصف هذه التأويلية بكونها عربية يجعلنا أمام احتمالين:
أ -  إما أن يكون هدف العمل هو استنباط أسس لبلاغة تأويلية مستمدة من التراث القرائي والتأويلي العربي والإسلامي، وهذه الفرضية لا نعدم النصوص التي تؤكدها في هذا العمل. وهذا لعمري شيء جميل وأصيل، غير أن استحضار بعض النظريات والأدوات الغربية وتضمينها في الجهاز التحليلي المقترح، وأيضا توظيف مفهوم التقابل الذي - بشهادة الباحث - لم يكن حاضرا كمقولة تأويلية في التراث التأويلي العربي الإسلامي، يطرح الكثير من الأسئلة حول عربية هذه التأويلية.
ب -  إن طريقة الخروج من هذه المصاعب هو أن يُفهم من العنوان - وهو الاحتمال الثاني - أن الأستاذ بازي يحاول عمليا التأسيس لبلاغة تأويلية عربية، فيكون هو المؤسس لهذه التأويلية العربية. في هذه الحالة أيضا، لن يكون من السهل تقبل أن يتم اختصار كل المجهودات التأويلية العربية قديمها وحديثها في هذا العمل، خاصة أن مفهوم التساند الذي يأتي كعنوان فرعي موجه لأطروحة الاشتغال هو مفهوم لا يبلغ مرتبة الإبداع.
ج - المسألة الثالثة في العنوان، سأحاول صوغها في شكل سؤال مباشر للأستاذ بازي: لماذا لا نجد التقابل في العنوان الفرعي للعمل حيث نجد اقتصارا على التساند، على الرغم من اعتقادنا الراسخ أن قوة هذا العمل وجدته ليستا في أطروحته عن التساند، ولكنهما في إغناء هذه الأطروحة بالتقابل؟

2- التساند
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن الصرح النظري الذي بُني عليه مؤلَّف" التأويلية العربية" يقوم بالأساس على إجراءين تأويليين: التساند والتقابل.
فأما التساند فهو" تبادل العون والمساندة في عملية بلوغ المعنى بين الدوائر النصية الصغرى، ويقصد بها العمليات القرائية التي ترتكز على مواد بناء النص وأبنيته الداخلية (معجم ونحو وبلاغة وقراءات) وبين الدوائر النصية الكبرى والتي يقصد بها الأشكال المعرفية أو النصية التي تقع خارج البنية النصية موضوع الفهم والتي تلعب دور الموازيات الدلالية الخارجية التي تخدم المعنى وتسنده مثل أسباب النزول، الأخبار، الإسرائيليات والنصوص الموازية (القرآن والحديث والشواهد الشعرية والأمثال ومعطيات الاتجاه المذهبي للمؤوِّل...
سنعتمد في ملاحظاتنا عن التساند في عمل الأستاذ بازي على نص له [ص 71  ] يقول فيه: "...محاولين تجلية جانب هام من جوانب الفهم والإدراك في أفق دعم التصور التساندي الذي نقترحه، فيما يتعلق بالخطابات الأدبية، حتى يتبين للقارئ أن هناك شبه تطابق بين الآليات العاملة في قراءة النص الديني ونظيرتها في النص الأدبي" .
يحاول الباحث في هذا النص أن يبين أن آليات الطرح التساندي يمكن تطبيقها على جميع النصوص كيفما كان نوعها. إنه إذا كان طبيعيا أن يستعمل هذا المنهج التساندي في فهم وتأويل الخطاب الإنساني، ما دام أن هذا الخطاب ينتج في إطار مجموعة من الشروط الثقافية التي يمكن إعادة استحضارها لفهم هذا الخطاب، فإن السؤال يطرح عن مدى إمكانيات تفعيل آليات المنهج التساندي كما يقترحه الأستاذ بازي  في مقاربة نص قرآني أقل ما يمكن يوصف به أنه مطلق يتجاوز كل الشروط اللغوية والفكرية والثقافية ؟
سنقتصر على طرح بعض الإشكالات التي يمكن أن تتولد عن انفتاح المؤوِّل على دائرتي المعجم والنحو في اشتغاله على النص القرآني، معتمدين على نصين لكل من الدكتور أحمد العلوي في كتابه " الهوية القرآنية وصواب التأويل "، والدكتور خليل بنيان الحسون في كتابه " النحويون والقرآن ":
- ينطلق أحمد العلوي من السؤال: هل يجب أن ينطلق التأويل من معجم موضوع ؟ إن هذا السؤال حسب العلوي يعني القول بمطلقية المعجم، والحال أن المعجم الموضوع للغة أصله الثقافة الشائعة حين الوضع .
- يقول خليل بنيان حسون في كتابه "النحويون والقرآن [ ص 331]" مناقشا تعامل النحويين مع القرآن الكريم: " ولقد كان الأجدر بالنحويين أن يحكموا على اللغة بما يرد في القرآن، لأنه يمثل الأعلى والأسمى لما فيها، وأن يردوا ما يتعارض معه، لكن الذي حدث كان عكس ذلك، إذ حكموا على القرآن بما تهيأ لهم من أقيستهم، ومما استخلصوه من شواهدهم...".
إن المطلوب إذن - في انفتاح النص القرآني على هذه الدوائر الصغرى - أن تتم مراعاة خصوصيته بأن يكون هو الأصل وهي الفرع، هو الذي يستدل به وليس الذي يستدل عليه.
إن المخرج من هذه الإشكالات في نظرنا هو الكف عن النظر إلى القرآن الكريم بوصفه نصا فقط، إذ يجب النظر إليه أيضا بوصفه خطابا، يقول نصر حامد أبو زيد  في كتابه " التجديد والتحريم والتأويل" 2010: " هل يمكن لأي نظرية في التأويل أن تستمر في تجاهل حقيقة أن القرآن ليس فقط مجرد نص؟ إن تاريخ التفسير يؤكد أن القرآن تم التعامل معه حتى الآن بوصفه "نصا" يحتاج إلى التحليل البنيو- فيلولوجي للكشف عن معناه".
إن الخطاب الذي ندعوه لمقاربة القرآن الكريم يتجاوز تلك الصرخة التي أطلقها الخولي في كتابه "مناهج التجديد" من أجل النظر في ألفاظ القرآن وأساليبه نظرة شمولية في كل النص القرآني، بل ضرورة اعتبار الخطاب القرآني طبقة من النصوص  التي تتميز ببنيات موضوعية  أو شكلية أو منهجية متقاربة. إن الخطاب القرآني يمثل تصنيفا للأشكال النصية الواردة في القرآن مع مراعاة مساره التكويني، وهكذا يمكن الاستئناس بالتصنيف الذي اعتمده محمد أركون نقلا عن تصنيف بول ريكور للأشكال الأدبية في العهد القديم، ففي هذا التصنيف الذي يتبناه أركون يتكون الخطاب القرآني من:
- الخطاب التنبؤي.
- الخطاب التشريعي.
- الخطاب القصصي.
- الخطاب التقديسي.
- الخطاب الابتهالي.
 إن البحث عن تساند الدوائر الصغرى والكبرى يجب أن يكون ضمن إطار عام هو إطار الخطاب، بمعنى أن الكلمة يجب أن يبحث في سياقات ورودها في ذلك الخطاب، ومن ثم البحث في خصوصياتها المعجمية والنحوية والبلاغية... إلخ. لا أن يتم إخضاعها أولا للمتون اللغوية والنحوية والبلاغية المتأخرة عنها... 
3 - التقابل  
يعد التقابل الركن الثاني بعد التساند الذي أقام عليه الأستاذ بازي نظريته في التأويل، وقد قام الأستاذ بازي في عمليه: "التأويلية العربية" و" تقابلات النص وبلاغة الخطاب" بمجهود متميز في سبيل نقل التقابل من مفهومه الضيق المرتبط أساسا بفعاليته البديعية النصية، إلى مفهوم أوسع تقوم عليه استراتيجية تأويلية قوامها العمل على محاذاة المعاني بعضها ببعض، والتقريب بين العناصر والمستويات ذهنيا عبر إحداث تواجه بين بنيتين أو وضعيتين أو موقفين. إن المجهود الذي قام به الأستاذ بازي في سبيل إنشاء هذا الصرح النظري التأويلي في فهم النصوص والخطابات والقائمة على مفهوم التقابل بمعناه الشامل كما بينا آنفا، جعل من التقابل كما بينه  الأستاذ بازي وطبقه، يُعد في نظرنا المتواضع من أهم النظريات الحديثة في الفهم والقراءة والتي يجب العمل على توسيعها وتقوية فعاليتها حتى تنال ما تستحقه من التنويه. لكن لدي ملاحظتان اثنتان على ما جاء عن مفهوم التقابل:
أ - يقول الأستاذ بازي [ص224]: " لم تسعفنا الكتابات التأويلية - قديمة وحديثة - بزاد شاف، يفيدنا في إقامة صرح نظري قوي فيما يتعلق بالتقابل ".
 نحب أن نثير انتباه أستاذنا إلى وجود نظرية متكاملة عن التوازي  parallélisme والتقابل أو المقابلة العكسية  le chiasme والتماثل la symétrie تحمل عنوان نظرية التحليل البلاغي أو البلاغة السامية rhétorique sémitique ou  analyse rhétorique. وهذه نظرية متكاملة أثبتت فعاليتها على مختلف النصوص السامية، ومن أبرز روادها Ronald meynet (أستاذ في المعهد البابوي للدراسات الكتابية بروما)  وMichel Cuyper  (أستاذ في المعهد الدومينِكاني للدراسات الاستشراقية بالقاهرة).
   على مستوى التطبيق، خاصة ما يتعلق بقراءة الأستاذ بازي لنص "حالات الزمان عليك شتى"، لاحظت أن البحث ظل تقليديا، مادام أنه يحاول تشغيل الأدوات التقابلية والتساندية بيتا بيتا ... إننا نعتقد أن التواصل الإنساني لا يكون بالكلمات والجمل، ولكنه يكون بالنصوص والخطابات،إننا نعتقد أيضا أن التركيز الأكبر يجب أن ينصب على البحث في التقابلات التي تخترق بنية النصوص فتساعد على نموها وترابطها وانسجامها، ومن هنا تكون الدعوة للبحث في وظيفة أو وظائف التقابل في النصوص. 
في الأخير نود أن نتوجه بالشكر لكل من أسهم من قريب أو بعيد من أجل التئام هذا اللقاء المبارك في هذا اليوم المبارك، وأخص بالذكر أستاذنا وعزيزنا سيدي عبد الحي العباس. ونتمنى للأستاذ بازي مقاما طيبا في هذه الكلية العامرة، كما نتمنى أيضا أن يكون هذا اللقاء بداية علاقة مستمرة  بين كلية اللغة العربية  والأستاذ بازي...



[1] - ألقيت هذه المداخلة خلال اليوم الدراسي الذي نظمته كلية اللغة بمراكش  تحت عنوان:" قراءات في مشروع محمد بازي التأويلي" يوم  24 فبراير 2012.
[2] - عبد الكريم الشرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط.1، 2006، ص. 17.
[3] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م، ص. 19.
[4] - محمد بازي، التأويلية العربية، م.م ، ص. 23.
[5] - نفسه ،  ص. 21.
[6] - نفسه، ص. 71.
[7] -  محمد بازي، التأويلية العربية، م.م، ص. 71.
[8] - المختار بنعبدلاوي، (ابن رشد والهيرمينوطيقا)، مجلة مقدمات، المجلة المغاربية للكتاب، عدد.15، شتاء 1998، الدار البيضاء، ص. 87 - 100.


شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: