تأويلية التقابل وتحليل الخطاب




 
محمد مساطة
تقديم
       لقد كان النص الأدبي بمفهومه الواسع منذ القديم وإلى عصرنا الحاضر، مداراً و متنا للاشتغال والتحليل، حيث طُبِقَتْ عليه مجموعة من المقاربات والمناهج ترمي في أغلبها إلى محاولة سبر أغواره وكشف بلاغة أسراره، وإنْ كان ذلك بطرق وآليات مختلفة. مثل تتبع الأثر النفسي للكاتب والمبدع في النص، أو الكشف عن البعد الكوني والاجتماعي في النص، أوالبحث فيما يجعل من النص الأدبي نصا أدبيا ....وهكذا وإنْ اختلفت الطرق والمناهج، تظل المقصدية واحدة وهي الكشف عن هوية النص الأدبي وما يجعله متميزا ومتفردا عن غيره.
       وتعتبر الأسلوبية من أهم المناهج الحديثة في مقاربة النص الأدبي، وقد ذاع صيتها في العالم بأسره. وهي منهج ظهر بعد لسانيات سوسير، يقوم على البحث في خصوصية التعبير وتفرده. بمعنى آخر، هذا المنهج يبحث في كل السمات والمظاهر التي تميز أسلوب الكاتب عن غيره.
       وكتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي"([1]) لصاحبه الدكتور
محمد بازي، واحد من أهم الكتب الحديثة وأغناها،  جعل من المقاربة الأسلوبية منهجا لدراسة النصوص الأدبية والاستماع إلى نبضها، بهدف الكشف عما تحويه من الخصائص والمميزات، وذلك بالاستناد على رؤية تأويلية تقابلية تسهم في الكشف عن العناصر والتقريب بين المستويات ذهنيا، من خلال إحداث تواجه بين بنيتين أو وضعين، أو موقفين، أو غير ذلك.
       وبما أن المقدمة هي شرط تعاقد بين المتكلم والمخاطب، أقول إن قراءتي هذه لكتاب الأستاذ محمد بازي لا تعدو أن تكون مجرد وقفة أهدف من خلالها إلى الوقوف بالتعليق عند أهم ما جاء في الكتاب من قضايا وفصول، محاولاً في هذا كله اكتساب طريقة تسعف في الإصغاء لنبض النصوص الأدبية وتحصيل طريقة منهجية في القراءة والتحليل.
      يصرح المؤلف في بداية الفصل الأول من كتابه بوجود دراستين اثنتين تناولتا القرآن الكريم من وجهة تأويلية تقابلية، يتعلق الأمر بدراسة كل من الدكتور أحمد أبو زيد في كتابه " التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي "([2]) ، ودراسة الدكتور فايز عارف القرعان في كتابه "التقابل والتماثل في القرآن، دراسة أسلوبية"([3]). لكن ما يلاحظ على هاتين الدراستين على الرغم من قيمتهما العلمية والمنهجية في مقاربة ظاهرة التقابل في القرآن الكريم، هو توقفهما عند الحدود التحليلية لمظاهر التقابل وتجلياته، وحدود خدمته للمعنى.
        إن الناظر في كتاب الدكتور محمد بازي، يجد أن هذا الباحث قد حاول تناول قضية التقابل في القرآن الكريم بعمق من خلال محاولة الإحاطة بأهم جوانبها، متجاوزا بذلك الحدود الضيقة في تحليل الخطاب القرآني بواسطة التقابل. وهذا ما يجعلنا أمام وعي تحليلي يهدف إلى تأسيس إستراتيجية تأويلية للنصوص استنادا إلى مبدأ التقابل الذي ينبني عليه كل ما في الكون (كل الأشياء متقابلة في الكون).
       يتأكد ما سبق من تصريح المؤلِّف في بداية الفصل الأول من كتابه بأنه يهدف إلى جعل التأويل بالتقابل منهجا في دراسة كل أنماط التعبير، وبذلك يتجاوز الحدود الضيقة التي حصرته في القرآن الكريم، ليشمل كل أنواع الخطاب الأخرى من شعر ونثر وقصة.... ولكي يُفَعِّلَ الدكتور
محمد بازي مشروعه التقابلي في دراسة مختلف الأنماط الأدبية، اتجه إلى تطبيقه على الخطاب القرآني، مرورا بالشعر والنثر، وانتهاء بخطاب الحكمة. وهي المعطيات التي سأحاول الوقوف عليها، محاولا التعليق على ما جاء في تحليلها.
1 ـ الخطاب القرآني
       معلوم ما للكتاب العزيز من قيمة في نفوس ووجدان المسلمين عامة، فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه الجامع لكل أساليب القول عند العرب، وهو المعجز بلفظه ومعناه، وببلاغته وحسن صياغته. ولقد حصل أن تحدى الله تعالى الناس بأن يأتوا بسورة من مثله ثم تحداهم أن يأتوا بآية، لكنهم عجوا عن ذلك.
      لقد شغل القرآن الكريم الناس منذ نزوله ببلاغته العجيبة وحسن سبكه وصياغته الفريدة، فاتجهوا قديما وحديثا إلى دراسته ومحاولة فك شفرات إعجازه الذي لا تنقضي عجائبه. ونحن نتصور أن الدكتور محمد بازي قد أدرك حقيقة هذه الأشياء، فحوّل زاوية النظر والتحليل نحو الخطاب القرآني، حيث اشتغل بواسطة التأويل التقابلي على سورة الفاتحة التي ما فتئت تدهش الناس ببلاغتها. وهذا الاختيار يدل على الحس الذوقي والفكري الذي يميز هذا الباحث. كيف لا، وسورة الفاتحة هي التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ بن كعب: " ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته."([4])
      إن تحليل الدكتور محمد بازي سورة الفاتحة ينم عن إدراك ووعي بالموضوع، وهو في كل ذلك يوظف أسلوبا شيقا ذا لغة علمية مباشرة بعيدة عن الغموض والتعقيد، غايتها الوصول إلى أبعد مستوى في التحليل. وقد أدرك المؤلِّف بأن سورة الفاتحة بما تحويه من تكثيف بليغ لمجمل ما جاء في القرآن الكريم، تزخر بثراء معنوي كبير، يسمح بإجراء وتطبيق المقاربة التأويلية التقابلية عليها، وفي ذلك يقول: "هذا الثراء المعنوي الكبير الذي تزخر به الفاتحة، يفتح أمامنا باب المشاركة التأويلية بالمقاربة التي اخترناها. وما ذلك إلا لقابلية النص للمحاورة الدلالية، والخصوبة المعنوية التي هو عليها. وهكذا، سنحاول الوقوف عند التقابلات الظاهرة والخفية، مقدمين بعض المفاتيح المفهومية والإجرائية لبناء المعاني والدلالات."([5])
      لقد أجاد المؤلِّف وأحسن في سبر معاني هذه السورة الكريمة، وذلك بالاعتماد على مجموعة من التقابلات، مثل التقابل بمعناه المعروف، بمعنى التضاد، والتقابل الذي يفيد التتمة والتكامل. فمثلا في قوله تعالى: "الرحمان الرحيم"، نجد أن صفة الرحمان تدل على جلائل معاني الرحمة وعظائمها، والرحيم تتميم لما لَطُف منها، والرحمة معناها العطف والحنو، ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها. ووظف المؤلِّف كذلك التقابل الضمني، فمثلا في قوله تعالى "بسم الله الرحمان الرحيم"، يمكن استخلاص معنى ضمني خفي يُفهم من السياق، وهو أن ذِكر صفة الرحمة في البسملة يُدخِل على النفس نوعا من الفرح والبهجة والشوق والسرور، وبالتالي هو تصريح على ترغيب النفس في طاعة الله، خلافا للغضب الذي يوحش النفوس ويزرع فيها الغضب والنفور.
      ومن التقابلات التي استعان بها المؤلِّف في شرحه معاني سورة الفاتحة ما أسماه بالتقابل النووي، حيث إن السورة بأكملها يحكمها تقابل نووي مركزي هو: مجمع الثناء والشكر مقابل مجمع المطالب والحاجات"([6]). وهكذا يمكن القول إن ما يلمسه القارئ في تحليل المؤلِّف سورة الفاتحة، هو فهمه العميق لمضامينها ومعانيها، سواء الظاهرة منها أو الخفية، وذلك بالارتكاز على مبدأ تأويلي تقابلي يذهب بالقارئ إلى أعمق مستوى في التحليل المعنوي.
      يبدو مما تقدم أن الدكتور محمد بازي قد حاول ـ حقا ـ تأسيس مشروع بلاغة تأويلية تقابلية في مجال التفسير، وذلك من أجل البحث في معاني النص القرآني الذي لا تنقضي عجائبه، وذلك بالاستناد إلى مجموعة من المداخل؛ كالمدخل اللغوي والنحوي والبلاغي والدلالي. لكن على الرغم مما قاله هذا الباحث عن سورة الفاتحة، فإن هذه السورة الكريمة ستبقى مفتوحة على إمكانات تحليلية وتأويلية أخرى، وذلك بسبب بلاغتها المعجزة التي لا تنفد.
2 ـ الخطاب الفكري
       إن الناظر في كتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي"، يجد أن مؤلِّفه قد خص الخطابات الفكرية بفصلين اثنين؛ الأول تناول فيه التقابل وبلاغة الحجاج في كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد الغزالي، باعتباره أنموذجا للخطاب الفكري، والفصل الثاني خصه للحديث عن البناء التقابلي في خطاب الحكمة.
       لقد سحر أسلوب الإمام الغزالي على مرّ  العصور، الصغير والكبير، والعالم والمتعلم. والمؤلِّف واحد من هؤلاء الذين انشدّوا إلى طريقة أبي حامد في التأليف، وهو الانشداد الذي دفعه إلى البحث في سر صناعة الخطاب التي يمتلكها، والبلاغة الرائعة التي يسحر بها قراءه ويأسر انتباههم. وقد تبين للدكتور محمد بازي أن طريقة أبي حامد الغزالي في التأليف تتميز برونق  الأسلوب، وتعكس نمطا من التفكير والتصور حول الحياة والكون والإنسان والدين، ويتلخص هذا في قول الشيخ أبو محمد الكارزوني: "لو مُحيت جميع العلوم لاستخرجت من الإحياء."([7])
      ولقد كان المؤلِّف في تطبيقه للمقاربة التأويلية التقابلية على كتاب الغزالي، لا يلتفت إلى صحة المضامين من عدمها، بقدر ما يبحث في بلاغة الخطاب وسر صناعة الحجاج عند الغزالي. وفي ذلك يقول: "وبإمكاننا أن نبحث عن الإطار الكلي التقابلي الذي يحكم عملية التأليف والكتابة عنده، وهنا سيتبين للقارئ المهتم بأمور التأويل وجماليات التقابل أننا لن نبحث في صحة المضامين، وانسجام المادة المقدمة مع الشريعة أو غير ذلك... لذلك سنعنى هنا بتحليل الخطاب، وأسرار بلاغة الحجاج في صناعة الكتاب"([8]) .
      وعملاً بالمبدأ التقابلي في التأويل، تبين للدكتور محمد بازي أن كتاب أبي حامد الغزالي ذو نسق تصوّري واضح قائم على العديد من التقابلات، والتي جاءت مرتبة على النحو التقابلي الآتي:
العبادات تقابل العادات، المُهلكات تقابل المنجيات، وبالتالي فسمات التقابل في الكتاب يمكن إدراكها في طريقة التقسيم ومنهجية التأليف، هذا على الرغم من أن أبا حامد الغزالي لا يصرح بمبدأ التقابل في كتابه. ومن النصوص التي اشتغل عليها الدكتور محمد بازي في كتاب "إحياء علوم الدين"، قول أبي حامد: "وفي القلب جنود، جند يرى بالأبصار، وجند لا يرى إلا بالبصائر، ويتمثل الجند المشاهد في اليد والرجل واللسان والعين، فهي كلها مسخرة للملك الذي هو القلب، وهو يفتقر لها من أجل سفره الذي خلق من أجله، وهو السفر إلى الله تعالى وقطع المنزل الأدنى
(الدنيا) لأجل الوصول للمنزل الأقصى(الآخرة)، ولابد له في سفره من البدن، والبدن مفتقر إلى الغذاء وغيره من أسباب البقاء، ولذلك افتقر هذا البدن إلى جندين، ظاهر: الأعضاء الجالبة للغذاء كاليد، وباطن: وهو الشهوة؛ فالأعضاء آلات الشهوات،  ولدفع المهلكات افتقر البدن إلى جندين، ظاهر: الأعضاء الدافعة للأذى: اليد والرجل...وباطن وهو الغضب الذي ينتقم من عدو البدن."([9])
       يرى الدكتور محمد بازي أن أبا حامد الغزالي يسير على النهج التقابلي في مختلف أجزاء كتابه، وهو تقابل تمثيلي وتعالقي، حيث ترتبط الأشياء فيما بينها ارتباطا سببيا؛ فالقلب يقابل الملك، والجنود تقابل الأعضاء المساعدة، والعبادة في مقابل السفر، والسفر إلى الدنيا يقابل السفر إلى الآخرة....وهكذا دواليك في أغلب أجزاء الكتاب.
       يمكن أن نقول في ضوء المنطلق السابق، إن أبا حامد الغزالي قد استعمل مجموعة من التقابلات، كالتقابل التمثيلي الذي يعد من أبرز عناصر الاستدلال التي ضمنت للكتاب قوة حجاجية وإقناعية، ولا عجب في ذلك، نظرا لما للتقابل من وظيفة تعضيد خطة الكتاب في التأثير والإقناع، وتقريب المعاني من الأفهام بضروب من الأمثلة.
       ويحضر الخطاب الفكري ـ أيضا ـ في كتاب " تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، في الفصل السادس الذي خصه المؤلِّف للحديث عن البناء التقابلي في خطاب الحكمة، من خلال نموذج من محاضرات الحسن اليوسي. وفي ذلك دعم لما سبق تناوله في الفصول السابقة من الكتاب، وفي كل ذلك ما يؤكد قوة تحكم البناء الذهني التقابلي في إنتاج الخطاب، لأنه يسكن الوجود و يؤسسه، كما أنه يشكل العمود الفكري لمختلف الأنساق التواصلية الإنسانية.
3 ـ الخطاب الشعري
     الشعر ديوان العرب والناقل لأخبارهم وأحوالهم عبر الزمان، فهو صانع الأذواق الأدبية ومنتجها ومهذب الألسنة ومقومها. ولما كانت له هذه القيمة التاريخية والاجتماعية....اهتم به العرب أيما اهتمام، قديما وحديثا، والمؤلِّف واحد ممن تعرضوا لدراسة الشعر وفق نظرة تأويلية تقابلية اعتبرت بلاغة الشعر وفصاحته وما يحويه من قوة المعاني، حقلا خصبا للدراسة التأويلية التقابلية.
     لقد خص الدكتور محمد بازي في دراسته للخطاب الشعري، فصلين اثنين، عالج في الأول الشعر القديم انطلاقا من قصيدة مرثية مالك بن الريب التميمي المشهورة، وحلل في الفصل الآخر قصيدة من الشعر الحديث، بعنوان " نسر " لصاحبها عمر أبو ريشة.
      اهتم المؤلِّف في دراسته لقصيدة مالك بن الريب على نظام خاص، عمل من خلاله على تقسيم القصيدة إلى مجموعة من الوحدات الكبرى، بلغ مجموعها عشر وحدات. مقسما إياها بناء على اشتراك عدد من الأبيات في المعنى، فكلما وجد عددا من الأبيات تدور حول المعنى نفسه، إلا ووضع لها عنوانا كبيرا تنضوي تحته. فمثلا الأبيات الخمسة الأولى عنونها بوحدة البلاد السالبة، ووضع الأبيات الأربعة التي تليها تحت عنوان الزَّفْرَةُ والقناع، وهكذا في كل أبيات القصيدة"([10])، وهو في كل هذا يحللها بحسب ما تسمح به طبيعة كل وحدة من التقابلات.
      والمتمعن في هذا الفصل ليجد كيف أن الدكتور محمد بازي يسير في التحليل إلى أبعد حد، هدفه كشف ما تنبنى عليه القصيدة من معان متقابلة تسهم بشكل كبير في فهم المعاني الخفية في القصيدة، وهو ما سيسمح بتأويل عميق للقصيدة بأكملها. يقول المؤلِّف  معلقا على بيت
مالك بن الريب التميمي الذي يقول فيه:
وأصبحت في أرض الأعاديّ بعدما         أراني عن أرض الأعادي قاصيا
إن التأويل التقابلي لهذا البيت يسمح لنا بالكشف عن مجموعة من المعاني الخفية في النص. " في هذا البيت نجد تقابلاً تتميميا على مستوى المعنى، فالواو العاطفة تحمل مطلق الجمع والاشتراك، و"أصبحت" الثانية تنضاف للأولى لتؤسس معها كذلك تقابل التضاد: أصبحتُ مقابل كنتُ. بعدما مقابل من قبل. الرائي مقابل المرئي. قاصيا مقابل دانيا وهو تقابل مُوَلَّد...أصبحت بين المسلمين في الجيش، مقابل أصبحت كذلك في مواجهة العدو. العدو القديم أصبح ناصرا مقابل العدو الجديد أعتى وأشد..."([11]). وهكذا يسير بنا هذا التأويل التقابلي الذي قام به المؤلِّف بنا تجاه الفهم الدقيق والسليم للأسس والبنى الجمالية التي يتأسس عليها القول الشعري.
      أما التحليل الثاني لقصيدة "نسر" لعمر أبو ريشة، فيسمح لنا بالحصول ـ أيضا ـ على عدد من التقابلات التي تشارك في إثراء البناء العام للقصيدة، ما يدل على أن هذا المبدأ التقابلي في التأويل صالح لأن يطبق على كل أنواع الخطاب ( قصة، رواية، إشهار مسرح...).
4 ـ الخطاب التأويلي
        إن مبدأ التقابل، مثلما سبقت الإشارة إلى ذلك، صالح لأن تُدرس به مختلف الخطابات والنصوص. وقد حاول الدكتور محمد بازي اكتشاف نجاعة هذا المبدأ من خلال تطبيقه على الخطاب التأويلي، ومن ثم اتجه في الفصل الخامس من كتابه إلى دراسة  خطابين تأويليين لنصين من  جنس المنقبة الصوفية، لدى ناقدين مغربيين معاصرين هما: عبد الفتاح كليطو، ومحمد مفتاح. وذلك من أجل تأكيد أن التأويل ما هو  إلا مجموعة أفعال تساندية تتبادل العون وتنفتح على بعضها البعض، خالقة ما يشبه ورشة عمل قرائية، هي منطلق الفهم والإفهام.
      وحتى تتسنى المقاربة الصحيحة للخطاب التأويلي، اتجه الدكتور محمد بازي في بداية الفصل الخامس من كتابه إلى بيان الفرق بين مفهوم النص والخطاب وحدودهما، ووجوه الفرق بينهما، أين يبدأ مفهوما النص والخطاب وأين ينتهيان؟ عارضا مجموعة من الآراء في هذا الموضوع. وهكذا تبين أن مفهوم النص مفهوم شاسع زئبقي الماهية، يصعب إعطاؤه تعريفا جامعا مانعا، وذلك بَيّنٌ وواضح في التعاريف المختلفة والمتضاربة أحيانا بين النقاد والمفكرين، لكن المؤلِّف استطاع بفطنته أن يستجمع جل هذه الآراء ويركزها، من أجل تحديد فهم دقيق لمفهومي الخطاب والنص. يقول المؤلف: "وبناء على ذلك، يجب أن ينظر إلى النص على أنه بنية لغوية متسقة ذات صناعة أدبية ونسج جمالي، موجهة إلى متلق، ووراءها منتج له مقاصد معينة، وهي قابلة للفهم والتأويل بأشكال متباينة، وفي مقتضيات أحوال مختلفة. أما الخطاب فهو النص المتداول في مقتضيات تخاطب معينة: زمان ومكان ومرسِل ومرسَل إليه، وكذا مجموع العلاقات الموجودة بين العناصر خارج-لسانية. وباختصار فالخطاب هو النص داخل أحوال تخاطب معينة"([12]).
      إن تأويل الدكتور محمد بازي للخطابين التأويليين لمحمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو ينصب على كشف منهج الدارسَين وتتبع آليات تحليلهما للنصين المنقبيين قيد الدراسة وفق مقاربة تأويلية تقابلية. وهكذا تبين للمؤلِّف أن تأويل الناقدين يختلف على مستوى المنهج والطريقة، لكنه يلتقي على مستوى الغاية والمقصد.
      فما يميز تأويل عبد الفتاح كليطو هو أنه يتفاعل مع النص بعيدا عن محدودية وعتاد المفاهيم (المناهج)، إذْ ينصب اهتمامه على الإنصات لنبض النص، باحثا عن كنوزه وجواهره التي تميزه، إنه تأويل يتجاوز ضيق المنهج إلى فضاء أوسع وأرحب في التحليل. أما تأويل محمد مفتاح فيتسلح دائما بمنهج معين، ثم يسعى إلى البحث له في النص عما يتماشى ومبادئه وأصوله التي يقوم عليها.
      وتتحكم في تأويلية عبد الفتاح كليطو لنص المنقبة مجموعة من الآليات التي تسعفه في تحقيق نوع من الترابط المنطقي فيما بينها، كالافتراض والفهم، وبناء المعنى والترجيح، والتحقق عبر الأشباه والنظائر... وهكذا يتجاوز عبد الفتاح كليطو الفضاء الضيق الذي ترسمه اللغة إلى فضاء أرحب ينفتح على كل العناصر السياقية التي تتقاطع معه أفقيا.
      وبالعودة إلى تأويل محمد مفتاح تبين للدكتور محمد بازي أنه يقوم على جهاز نظري وفروض وقواعد أسعفته في كشف ما يقوم عليه النص من ثنائيات تتضافر في بناء وتشكيل المعنى. يقول: "يستند التأويل عند مفتاح على جهاز نظري، وفروض وقواعد ومفاهيم، وهو ما ساعده على اكتشاف الثنائيات التي تقوم عليها حياة النص: الوجه الظاهري/الوجه الباطني، المعنى الحرفي/ المعنى المجازي، عالم الواقع/عالم الإمكان، الموضوع الأول/الموضوع الثاني، المشبه/ المشبه به"([13]).
      لقد خلص المؤلِّف في آخر الفصل الخامس من كتابه إلى أنه مهما تعددت أساليب وإجراءات التأويل وتباينت بين النقاد، فالتأويل يتخذ مساراً دائريا، يبتدئ من النص، ثم ينفتح على السياق ليعود إلى منطلقه الأول، كما هو الحال عند الناقدين المغربيين الذين اشتغلا على النص المنقبي. إذ على الرغم من تباين منهجيهما في المقاربة والتحليل، إلا أنهما يلتقيان في الاشتغال على ما أسماه المؤلِّف بدوائر النص الصغرى، كالمعجم والتراكيب النحوية والبلاغية، والرمزية، والعلاقات بين البنيات النصية.... كما يلتقيان في دوائر النص الكبرى، التي تسهم في توسيع مجال قراءة النص عبر ملابسات الإنتاج، والمؤلِّف، والظروف الاجتماعية والسياسية التي أسهمت في إنتاجه.
خاتمة
      خلاصة ما سبق ذكره يمكن أن نؤكد فيها أن كتاب الناقد  الدكتور محمد بازي يعتبر من أهم الأعمال النقدية التي أحسنت توظيف المقاربة التأويلية التقابلية في فهم النصوص وتحليلها. إذْ انصب اهتمامه على دراسة مجموعة من الخطابات استنادا إلى مبدأ التأويل التقابلي باعتباره إستراتجية قرائية لصناعة المعنى في مختلف النصوص والخطابات. وعملا بهذا الوعي اتجه الدكتور محمد بازي نحو سبر أغوار معاني الخطاب القرآني، وذلك انطلاقا من محاولة إعادة بناء معاني سورة الفاتحة التي ما فتئت تدهش الناس ببلاغتها وإعجازها. ثم حوّل زاوية النظر  للوقوف على سرّ صناعة بلاغة الحجاج عند الإمام أبي حامد الغزالي الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين". ومن أجل تأكيد أن هذه المقاربة التأويلية التقابلية في التحليل صالحة لدراسة معظم الخطابات، عمل المؤلِّف على تطبيقها على النص الشعري في شقيه القديم والحديث بهدف الوقوف على بلاغته، ثم وظف المقاربة نفسها في تحليل الخطاب التأويلي عند كل من عبد الفتاح كليطو ومحمد مفتاح.
     وانطلاقا من كل ما سبق، تبين للدكتور محمد بازي أن التأويل التقابلي يقوم على إستراتجية خاصة تنهل وتستفيد من كل المناهج  الأخرى، وتتميز بالانفتاح والإبداعية، ففي كل قراءة يمكن لنا الحصول على مفاهيم وآليات جديدة. وهذا ما أتاح لهذا الباحث تأسيس بلاغة تأويلية منتجة ذات طعم خاص بين مختلف التأويليات الحديثة.
 


[1]  ـ محمد بازي، تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط.1، 2010.
[2]  ـ أحمد أبو زيد، التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، (د.ط)، 1992.
[3]  ـ فايز عارف القرعان، التقابل والتماثل في القرآن، دراسة أسلوبية، جدارا للكتاب العالمي، عمان، عالم الكتب الحديث، إربد، ط.1، 2006.  
[4] - أخرجه البخاري والترمذي والنسائي. محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مراجعة وضبط وفهرسة: الشيخ محمد علي القطب والشيخ هشام البخاري، المكتبة العصرية، بيروت، 2003، 3/1614.
[5] - محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م، ص. 24.
[6] - للتوسع يراجع كتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي"، م.م، ص.26.
[7] - نقلا عن محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م، ص.43.
[8] - محمد بازي: نفسه، ص.33.
[9] - محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م ، ص. 46-47.
[10] - محمد بازي، تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م، ص.72- 106.
[11] - نفسه، ص.79.
[12] - محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م، ص.139.
[13] - محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، م.م ، ص.155.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: