قراءة في كتاب " تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي" الجزء الاول




يوسف عابدات                         


مـــقدمـــة:          
         كونت اللسانيات الحديثة مادة خامة تشكلت منها وتطورت عنها مناهج جديدة كالشكلية والبنيوية والأسلوبية والتفكيكية وغيرها، تنظر كل منها إلى النص الأدبي من جهة خاصة، وتعتمد جميعها اللغة أساسا في قراءتها. وقد أدى هذا التعدد إلى إغناء قراءات النص الأدبي، حيث أمكن تناول النص من عدة مناح تبعا للمنهج المختار للقراءة، وبات النص نصوصا أخرى لم نكن لنراها إلا بعدسة تلك المدارس المتنوعة، وفي هذا الإطار الفكري والنقدي،  سنعرض لمقاربة  تؤسس لمشروع قرائي واسع في مجالات الفهم والتأويل وتحليل الخطابات والنصوص بشتى أنواعها من  خلال كتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي" لمحمد بازي .
         الكتاب هو امتداد  وتوسيع وتطعيم لما ورد في كتاب سابق للباحث بعنوان:" التأويلية العربية: نحو نموذج تساندي لفهم النصوص والخطابات"، يقدم من خلاله  رؤية جديدة لقراءة النص الأدبي بمختلف أجناسه، انطلاقا من بِنية عَميقة مُؤسِّسَة للمعنى، قائِمة على أساس التَّقابُل كمنطلق قرائي يمكن العمل به لتحليل الظواهر الأدبية والفكرية، ومعالجة الأفكار والمعاني، وتذوق الأساليب الفنية والجمالية في  مختلف اانصوص والخطابات        ( الأدب، النقد، النصوص  الفلسفية والنصوص الدينية ...).
       يقوم المقترح القرائي في هذا الكتاب على المزاوجة بين التقديم النظري الموجز، والتقريب التمثيلي والتطبيقي المبسط لإستراتيجية التأويل التقابلي على نصوص دينية وأدبية مختلفة، وهو ما سنسعى إلى التوقف عنده في هذه القراءة عبر بابين اثنين، يتطرق أولهما إلى بعض عتبات الكتاب على مستوى بنيته المورفولوجية، وعنوانه ومقدمته، ويتطرق الثاني إلى  عرض ملامح استراتيجية التأويل التقابلي في فصول الكتاب الستة، لنخلص بعد ذلك إلى خاتمة موجزة على ضوء ما تم عرضه.
         الباب الأول: عتبات الكتاب:

         تعتبر عتبات النص "بنيات لغوية وأيقونية تتقدم المتون، وتعقبها لتنتج خطابات واصفة لها، تعرف بمضامينها وأشكالها وأجناسها(...)، ومن أبرز مشمولاتها :اسم المؤلف، والعنوان والأيقونة، ودار النشر، والإهداء، والمقدمة..."[1]. وسنكتفي في هذه القراءة  بالتوقف عند بعضها : بنية الكتاب، العنوان، ثم المقدمة.

          الفصل الأول: بـنيـة الكــتاب:

         صدر كتاب "تقابلات النص وبلاغة الخطاب ، نحو تأويل تقابلي" لمحمد بازي[2]، عن الدار العربية للعلوم/بيروت ومنشورات الاختلاف/ الجزائر، ط.1، 2010.
         الكتاب من الحجم الصغير (20,7سم×14سم) يضم 183 صفحة ويُشَكِّل على مستوى مضامينه وأطروحته امتدادا وتوسيعا  لمشروعه التأويلي الذي بسط ملامحه الأولى في كتابه السابق: "التأويلية العربية:نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات".
         يتضمن الكتاب ستة فصول تؤطرهم مقدمة وخاتمة،  تناول الباحث في الفصل الأول سورة الفاتحة الكريمة من منظور تقابلي لإبراز بلاغتها وإعجازها، وتقريب معانيها إلى القراء عبر المقترح القرائي المشار إليه، وعرض في الفصل الثاني لبلاغة الحِجاج في كتاب" إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي.
     وتوسيعا للاستراتيجية ذاتها، طبَّق رؤيته التأويلية –في الفصلين الثالث والرابع-على نصين من الشعر: قديم، وهو نص مرثية مالك بن الريب التميمي الشهيرة، وحديث، وهو نص " نسر" لعمر أبو  ريشة. وقد اكتست المقاربة طابعا تحليليا وتقابليا وتأويليا، يروم بالأساس التأكيد على فعالية وإجرائية الإستراتيجية المقترحة للوقوف على بلاغة الخطاب الشعري. وفي الفصل الخامس عمد إلى المقابلة بين قراءتين تأويليتين للكرامة الصوفية،  أنجزهما مؤَوِّلان مغربيان معاصران، وهما محمد مفتاح وعبد الفتاح كِليطو، وفي الفصل الأخير لامس بعض الملامح التقابلية في خطاب الحكمة، من خلال نموذج منتقى من كتاب "المحاضرات" للحسن اليوسي.
         الفصــل الثــاني: العنــوان:
يتكون عنوان الكتاب من شطرين، عنوان رئيسي"تقابلات النص وبلاغة الخطاب" وعنوان فرعي "نحو تأويل تقابلي".
 يتألف العنوان الرئيسي من مركبين إضافيين"تقابلات النص" و"بلاغة الخطاب"، في حين يتألف العنوان الفرعي من مركب وصفي"تأويل تقابلي"، وسنحاول أن نتوقف عند الدلالات الجزئية لهذة المركبات أولا، ثم نستخلص من خلالها دلالة عامة للعنوان، لنبني تصورا أوليا حول مضمون النص انطلاقا من عنوانه.
أ- تقابلات النص:
التقابل: من منظور الباحث هو" محاذاة المعاني بعضها ببعض، والتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي، عبر مواجهتها ببعضها(وجها لوجه)، لإحداث تجاوب ما أو تفاعل معرفي، أودلالي"[3].
وللتقابل أشكال متعددة: كتقابل الإبدال والتتميم والتشابه والتضاد والقلب والكناية وغيرها...
النص: يتداخل هذا المصطلح مع غيره من المصطلحات مثل الخطاب والعمل أو الأثر، بيد أن هذا التداخل لاينفي حقيقة الفرق بينه وبين غيره من المصطلحات .  فالنص لغة يفيد: الرفع، الإظهار، ضم الشيء إلى الشيء، وأقصى الشيء ومنتهاه[4]. واصطلاحا: تعددت مفهوماته وتحديداته بتعدد المقاربات النقدية التي تناولته، ونختارمنها تعريفا لمحمد مفتاح يعتبر فيه النص " مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة"[5]. وحسب فاينرش Weinrich النص هو "وحدة كلية مترابطة الأجزاء؛ فالجمل يتبع بعضها بعضاً وفقاً لنظام سديد، بحيث تسهم كل جملة في فهم الجملة التي تليها فهماً معقولاً، كما تسهم الجملة التالية من ناحية أخرى في فهم الجمل السابقة عليها فهماً أفضل"[6]، ويرى سعيد يقطين أن " النص بنية دلالية تنتجها ذات فردية أو جماعية، ضمن بنية نصية منتجة، في إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة"[7]. أما النص في اصطلاح الباحث- محمد بازي- فهو"بنية لغوية متسقة ذات صناعة ونسج، موجهة إلى متلق، وراءها منتج له مقاصد معينة، وهي قابلة للفهم والتأويل بأشكال متباينة، وفي مقتضيات أحوال مختلفة"[8].
وبناء عليه،  تحيلنا عبارة "تقابلات النص" من منظور التأويلية التقابلية إلى مجموع البنيات المتقابلة لمكونات وعناصر النص، وفق علاقات تواجه (وجها لوجه)، قابلة للملاحظة والوصف أو الافتراض والتوقع...
ب‌-    بلاغة الخطاب:
         البلاغة: لغة: الانتهاء والوصول،  وتعني كذلك الفصاحة وحسن الكلام[9]..واصطلاحا: ذكر البلاغيون عدة تعريفات لها؛ فقالوا:" البلاغة لمحة دالة. والبلاغة معرفة الفصل والوصل. والبلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام. والبلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى. والبلاغة كلمة تكشف عن البقية. والبلاغة حسن العبارة وصحة الدلالة . والبلاغة القدرة العلى البيان مع حسن النظام"[10].
         الخطاب : اختلف كثير الدارسون في تعريف الخطاب كما هو الشأن بالنسبة للنص، فبحسب رأي بنفنيست : الخطاب" وحدة لغوية تفوق الجملة، تولد من لغة جماعية"[11]، وعرفه أيضا بأنه " أي منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راو ومستمع، وعند الأول فيه نية التأثير في الآخر بطريقة معينة"[12]، وفي تصور الباحث- محمد بازي-  الخطاب هو: "النص المتداول في مقتضيات تخاطب معينة: زمان ومكان ومرسل و مرسل إليه، وكذا مجموع العلاقات الموجودة بين العناصر الخارج- لسانية، أي النص داخل أحوال تخاطب معينة"[13].
و في سياق نظرية التأويل التقابلي تحيلنا عبارة "بلاغة الخطاب" الواردة في العنوان إلى البحث عن المعاني الظاهرة والعميقة في مختلف أشكال الخطاب، دينيا كان أو أدبيا      أو تاريخيا أوعلميا...
ج‌-    التأويل التقابلي:
         التأويل: لغة: " المرجع والمصير، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه"[14]. وفي اصطلاح الباحث "إعادة بناء المعنى النصي أو الخطابي وبيانه عند الفهم والتفهيم، سواء حصل ذلك عبر ظاهر العبارات والألفاظ، أو تم تجاوز الظاهر نحو البنيات العميقة للمعنى"[15].
بناء على ما تقدم ، ومن خلال تجميع وضم الدلالات الجزئية لمكونات العنوان -بعضها إلى بعض - نخلص إلى تشكيل جديد للعنوان نحو "القراءة التأويلية لنصوص وخطابات متنوعة على أساس التقابل"، عبرإحداث التواجه بين المعاني والعناصر المكونة لهذه النصوص والخطابات سعيا إلى بلوغ المعاني العميقة لها فضلا عن الظاهرة.
ويبقى استنطاق النص- باعتباره تفصيلا لمجمل العنوان – كفيلا ببيان إلى أي حد تنسجم الدلالة المستخلصة حول العنوان مع دلالته الأصلية، وإحالتهما معا على مضمون النص/الكتاب.
الفصل الثالث: المقدمة:
استهل الباحث مقدمة كتابه بمدخل مفاهيمي حدد من خلاله  معنى التأويل التقابلي باعتباره "استراتيجية قرائية لصناعة المعنى، يمكن الاشتغال بها لفهم النصوص والخطابات وتفهيمها، أسه محاذاة المعاني بعضها ببعض، والتقريب بين العناصر والمستويات ذهنيا، عبر إحداث تواجه بين بنيتين، أو وضعين، أو موقفين؛ إنه انتقال في الفهم يقوم على  التساند بين الآليات التي تنبني عليها النصوص والخطابات من جهة ، وعلى الجهد الذهني المتقصي للمعاني والعلاقات الممكنة بين العناصر النصية والمستويات السياقية[16] .
فالتقابل إذن- في نظر الباحث- منطلق قرائي لتحليل الظواهر الأدبية والفكرية،  ومعالجة الأفكار والمعاني، وتذوق الأساليب الفنية والجمالية في الخطاب والنص، من خلال عزل المستويات الدلالية وتشقيق المعاني ، ثم إعادة بنائها عبر المداخل النحوية، والتركيبة، والصرفية، والأسلوبية، والبيانية، والدلالية والرمزية ...
بعد هذا التحديد الوافي لمصطلح التأويل التقابلي ينتقل الكاتب إلى تحديد المقترح القرائي للكتاب، وهو مقترح يقوم على "المزاوجة بين التقديم النظري الموجز، والتقريب التمثيلي والتطبيقي المبسط لاستراتيجية التأويل التقابلي"[17]، مع اختلاف في مستوى التناول بين نص وآخر .
تشير المقدمة أيضا إلى مجموع المقاربات التأويلية التي اعتمدها الباحث في قراءته التقابلية لنصوص مختلفة: من القرآن الكريم) سورة الفاتحة)، ومن التراث الصوفي     )كتاب إحياء علوم الدين(، ومن الشعر القديم والحديث، ومن القراءة التأويلية لبعض المعاصرين، ثم نصا أخيرا من خطاب الحكمة مقتطف من كتاب المحاضرات للحسن اليوسي .
إن القراءة التأويلية لهذه الاختيارات الإنتاجية المتنوعة، ستمكن حسب المؤلف من تمكين القارئ من اكتشاف إمكانيات كبيرة لبناء المعنى انطلاقا من مقابلة العوالم والوضعيات والحالات التي تسعها هذه الخطابات على اختلاف تلاوينها ، مما سيبرز مدى قوة وجمالية الخطاب التأويلي وإثارته التي تظهر في مختلف تجلياته الفنية.


[1]  يوسف الإدريسي : عتبات النص، بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، ط1، منشورات
    مقاربات، أسفي، 2008، ص.15.
[2]  محمد جلال الدين بازي كاتب مغربي من مواليد سنة 1970 بالقرية الميمونية بأكادير. جمع بين النقد والإبداع. يعمل أستاذا بالمركز التربوي الجهوي بإنزكان. ابتدأ مشواره العملي من جامعة ابن زهر بأكادير. بحصوله على الإجازة في الأدب العربي سنة 1993 . ثم حصوله على دبلوم الدراسات العليا سنة 1999 بجامعة محمد الخامس بالرباط عن رسالة بموضوع:" النص واستراتيجيات التأويل مقاربة في خطاب التفسير"، ثم على الدكتوراه في الآداب سنة 2006 من جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع:"التأويلية العربية:تجليات التساند ومستويات انفتاح السياق"، إلى جانب ذلك فهو حاصل على على تكوين جيد في المعلوميات والاتصال: مشروع أنتل التعليم للمستقبل سنة2007. وفي سنة 2009 حصل على شهادة التبريز في اللغة العربية، كما نال جائزة المغرب للكتاب في صنف الدراسات الدبية والفنية سنة 2010 عن كتابه" التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات": يعمل الأستاذ محمد بازي حاليا في ميدان تكوين الأطر التربوية بالمركز الجهوي بإنزكان، وتنوعت أعماله بين النقد والإبداع و علوم التربية.
[3]  محمد بازي: نظرية التأويل التقابلي، مقدمات لمعرفة بديلة للنص والخطاب، منشورات ضفاف/الرباطو منشورات
   الاختلاف/الجزائر، ط.1، 2013، ص.406.
[4]  ابن منظور : لسان العرب، دار صادر، ط.6، 1997، مادة "نصص".
[5] محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري، استراتيجة التناص، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء،ط.2، 1986،
   ص.120.
[6]  د. محمد العبد: اللغة والإبداع الأدبي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1989، ص.36.
[7] سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي(النص- السياق)، المركز الثقافي العربين بيروت- البيضاء، ط.1، 1989،
   ص.17.
[8] محمد بازي: التأويلية العربية: نحونموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، الدار العربية للعلوم/بيروت ومنشورات
   الاختلاف/ الجزائر، ط.1، 2011.
[9]  ابن منظور: لسان العرب، مذكور، مادة" بلغ".
[10]  نقلا عن بسيوني عبد الفتاح فيود: علم المعاني: دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني، مؤسسة المختار/ القاهرة ودار
     المعالم الثقافية/ الأحساء، ط.1، 1998، ص.27.
[11]  فرحان بدري الحربي: الأسلوبية في النقد العربي الحديث (دراسة في تحليل الخطاب)، مجد المؤسسة الجامعية
     للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت،ط1، 2003، ص.4 .
[12] نفسه، ص.40.
[13] محمد بازي: نظرية التأويل التقابلي،  مقدمات لمعرفة بديلة للنص والخطاب، مذكور، ص.415.
[14] ابن منظور: لسان العرب، مذكور، ج.11، ص32.
[15] محمد بازي: : نظرية التأويل التقابلي،  مقدمات لمعرفة بديلة للنص والخطاب، مذكور، ص.403.

[16]  محمد بازي: تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، دار/ بيروت ومشورات الاختلاف. الجزائر، ط.1،
     2010، ص.9.
[17]  نفسه، ص.10.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: