المغرماذا تغيَّر بعد قرن من أدب الاستكشاف ؟ رؤية تقابلية وجودية

 

 

المغرب المجهول

ماذا تغيَّر بعد قرن من أدب الاستكشاف ؟  

رؤية تقابلية وجودية



محمد بازي[1] 

السَّفر إذا لم يكن ظَفرا لا يُعوَّل عليه

ابن عربي

تقديم

بعد قرن من الزمن سيتبين لقارئ أدب الرحلة، أن مشكلات ذهنية وأخلاقية بنيوية لا تزال تؤرق الإنسان الغربي والمشرقي على السواء، وأن كلا منهما لم يجد في الآخر ما يرضيه كلية، فيسترسل منتقدا أو يتوقف حاقدا، بل قد يتحول الخطاب الناقد والناقم إلى خطاب أفعال يتحرك على شكل جيوش تُستعمل، أو جواسيس مخبرين يُدَسُّون في كل الآفاق، أو انتقامات بالأسلحة المدمرة، أو حركات تبشيرية تليها بلدان تُستَعمر. فكيف نحترم الآخر المستعمر القديم؟ وكيف نجعل منه أنموذجا لنا في القيادة وتسيير شؤوننا؟

         يظهر أن السلم العام لا يمكن أن يعم العالم دائما، بل إن الصراع والاختلاف سيظلان المحرك الفعلي للتاريخ ولدورانه في بحث الإنسان عما يكمل نقصه الاجتماعي أو الاقتصادي أو التقني، لكن بدون أخلاق كبرى وقوانين عالمية تحترم بدقة، فإن الخطابات العدائية تتحول إلى هجوم كاسح، وإلى حرب مستعرة، وإلى استعمال وسائل غير مشروعة لضرب الآخر المخالف والقضاء على وجوده المادي أو هويته الاعتبارية أو لغته.

نبسط في هذا المقال بعض الحقائق التاريخية انطلاقا من الأدب، وتحديدا بإجراء قراءة تقابلية بين بعض المقاطع الأدبية الدالة من نصوص رحلية: من غربيين إلى بلاد المغرب أوائل القرن الماضي، ومن مشارقة إلى الغرب تحديدا، بهدف إضاءة جانب من تاريخنا البعيد/ القريب، وفهم واقعنا الحالي، وتجلية بعض التناقضات الاجتماعية والدينية والإنسانية المتأصلة في وعينا الجمعي وثقافتنا، عسى أن تتجلى انطلاقا منها بعض المعاني والفوائد والمخاطر التي لا تزال قائمة.

اخترنا من أدب الرحلة: رحلة في أسرار بلاد المغرب[2] لـ "إتيان ريشي" (1873-1929م) في مدونته الرحلية البديعة. ورحلة إلى المغرب"، لـ "إمانويل شلومبيرجر"[3]، وقد ترجمهما في السنوات الأخيرة الكاتب والباحث بوشعيب الساوري ترجمة جيدة. نستهدف من تقديمنا هذا تقريب القارئ من الصورة التي رسمها بعض المستكشفين للمغرب والمغاربة وقتئذ. ورصدهم لتناقضات اجتماعية بعين فاحصة ناقدة، محاولين من جهتنا إثارة الانتباه لدور الكتابة الرحلية في التمهيد لاستعمار المغرب والهيمنة عليه.

كما سنقف تمثيلا عند "رحلة إلى أوروبا"[4]  لجرجي زيدان التي تزامنت مع الرحلتين  المذكورتين لرصد  بعض معالم أوروبا من منظور الرحالة العرب، وبيان بعض المفارقات في التصورات الذهنية والتصوير الأدبي .

تحرك هذه القراءة منهجية الرؤية الوجودية البليغة وفلسفة البلاغة الكبرى التي فصلنا الحديث فيها في مجموعة من الأعمال الفكرية والبلاغية الأخيرة، وحددنا فيها معالم صورة المستقبل الوجودي المأمول للإنسانية المؤمنة من وجهة نظرية التأويل البليغ.

 شغلتنا ونحن نطلع على هذه الأعمال مجموعة من الأسئلة: أي معنى للحضارة نحمل في تصوراتنا اليوم؟ أمن أجل الحياة ذات النسق المتوقف بالموت نبنيها ونكد لتحصيلها؟ أم من أجل حياة لما وراء هذا النسق المغلق؟ وأي معنى للتاريخ والعمران والأدب إذا كان البناء الحضاري هدفه ملء الفضاء فوق الأرض، ثم الرحيل بعد حين؟  هل وراء كل الجهود التي تبذل في الكتابة والتأليف فهم وقصد ومعنى وروح تطابق الرؤية القرآنية؟  وهل مقاصد الكتابة والتأليف ساكنة الظن والعزم بما تفعل، ثابتة على التعلق بما وراء المقاصد القريبة للإبداع الأدبي؟    

المغرب المجهول والمخيف أوائل القرن العشرين

       تبدأ مدونة"رحلة في أسرار بلاد المغرب" بوصف هواجس الأوربيين مما كان يخفى عنهم من بلاد المغرب سنة 1905م.هذا التاريخ مفيد لنا في التحليل لنرى كيف كانت أحوال المغاربة قبل قرن وكيف هي اليوم. هل تغير شيء أم لا؟ قال:" يظل المغرب ظاهريا على الأقل، البلد الأكثر سكينة واطمئنانا كذلك...لكن لا ينبغي أن ننخدع بهذا الأمر؛ فالمجتمعات المتخلفة لا تعرف الهدوء أبدا وحالها بالأحرى هي دوام الاضطراب، فعندما يهدأ الكون ويركن للسكون يتهيأ لأوروبا القَلِقَة وهي تصغي للجهة المقابلة لجبل طارق، أنها تسمع مثل خرخرة قِدر يغلي، ما يوجد بذلك القِدر؟ لا أحد يعرف"[5].

          يقربنا هذا النص الدال من هواجس الدول الأوروبية عما يجري في المغرب، وخاصة بعد موت الحسن الأول سنة 1894م، وما تلاه من استقرار طفيف في عهد الصدر الأعظم بَّاحماد ، لكن بموت هذا الأخير سنة 1900م. لم يتمكن عبد العزيز بن الحسن من ضبط شؤون الحكم لحداثة سنه. قال الرحالة واصفا هذا الوضع:" يمكن للأمور التي ليست على ما يرام أن تسير بشكل عاد لأمد ما. أما حين يُهَدِّد القِدْر بتفجير غِطائه، فإنه سيوجد هناك من يزيل زَبَد غَلَيانه ليستأنف مجددا الغليان على نار هادئة"[6].

يمضي "ريشي" على هذا المنوال واصفا ما يعده مظاهر للفوضى، والسيبة، وغياب العدل والتعصب الديني واحتقار الأجانب، داخل ما أطلق عليه اسم "المملكة المحتضرة"؛ إذ أصبح المغرب عاجزا عن ضبط كل مناطق نفوذه، بل أضحى محلا لهروب المقاومين الجزائريين . كان ريشي مؤلف الرحلة مكلفا من قبل الفرنسيين  بتقدم البعثة الفرنسية، وتزويدها بالمعلومات الاستخبارية عن القبائل. وقد تمكن بذكائه، ومعرفته بطبائع المجتمعات والشعوب من بلوغ حقيقة القبائل المغربية، قال:" يتعين على من ينوي غزو هذه البلاد، أن يحسب جيدا عدد الملايين التي عليه إنفاقها، وكميات الدماء التي سيكون ضروريا إراقتها من أجل إخضاع شعب متعصب. كل من عاش داخل الأوساط العربية يعرف ما سيكلفه إجبار هذا العِرق العنيد على الخضوع، وهو يجمع بين خفة العقل والعناد في الأحقاد، الذي يظل  مخلصا لكراهيته، بقدر ما هو سريع النسيان لهزائمه، يغرف من جنون أوهامه ما يشجعه في مساعيه عديمة الجدوى وانتقاماته الأبدية"[7].

يهمني أن يتأمل القارئ بوعي نقدي حقيقة هذه الصفات الدقيقة التي استنتجها هذا الرحالة الأديب والخبير المخبر: عرق عنيد، خفة عقل، وعناد في الحقد، الإخلاص في الكراهية، سرعة نسيان الهزائم، أوهام جنونية، ومساعي عديمة الجدوى. إنها رؤية الأجنبي للمغاربة مطلع القرن العشرين في سياق التمهيد للحملة الاستعمارية، وبإمكان القارئ أن يتساءل بعد قرن من الزمان، وبفعل ما يعرفه عن الناس في بلادنا العربية، وما جرى فيها خلال العقدين الأخيرين ولايزال، من تدمير واقتتال. أليست هذه الحقيقة المؤسفة قائمة؟ أليست هذه الطبائع المترسخة في كينونتنا هي سبب كثير من خساراتنا؟ هل تجاوزنا هذه الصورة ورسمنا لوجودنا وأخلاقنا الوجودية ملامح جديدة؟

   لكن بالمقابل: ألم تكن فرنسا كذلك مقبلة على حرب عالمية؟ وماذا يمكن أن يقال عن دخول فرنسا الحربين العالميين؟ أين هي الحقيقة عن الأخلاق الرفيعة والمُثل العليا بعد كل هذا التاريخ التي يقدمها لنا الأدب الرحلي الأجنبي عن أنفسنا وعن نفسه؟ أو ليس ما تسوقه الدول العظمى عن حقوق الإنسان مجرد خطاب لا نراه في الواقع  عندما يتم ضرب الشعوب في عقر دارها؟

بعد خروج فرنسا من المغرب وبناء الدولة المغربية الحديثة يمكن التساؤل كذلك: أي جدوى وأي درس استخلصته فرنسا من استعمارها للمغرب؟ وأي درس كذلك للمغاربة من مقاومة استعمار عسكري والإفساح للاستعمار اللغوي والثقافي؟  كانت الاستعمارات والحروب الكبرى أكبر عبث عرفه التاريخ، إنه صراع الإنسان من أجل البقاء وتحقيق النفوذ، وتلك سنة الحياة، وناموس الصراع على الأرض، فما الحكمة من كل تلك  المحاولات ومن كل تلك الجراح والخسائر؟  ألم تكن أوروبا ظالمة باستعماراتها وأطماعها التوسعية؟ أليس جشعها وطمعها هو الذي أدخلها الحرب التي أودت بعشرات الملايين من القتلة والمشردين والأرامل، وويلات الحرب الكثيرة التي لا تزال آثارها إلى اليوم؟ فكيف سمح هذا الرحالة لنفسه بأن يصف أحوال أهل المغرب بكل تلك الصفات؟ وأي وعي تاريخي ووجودي كان يحركه؟

إنها أسئلة منظور البلاغة الوجودية، هذا التفكير النقدي الذي يضع الوعي الأدبي والفلسفي أمام أسئلة وجودية مرجعها المنظور الفلسفي للبلاغة الكبرى.

          يحمل خطاب رحلة ريشي نظرة الأجنبي المترفع الطامع المتأذي من حيطة المغاربة، وعدم اطمئنانهم إليه، عبر وصف الواقع الاجتماعي والسياسي والديني والعرقي في المغرب، وهو واقع كانت فرنسا تتوجس منه، وقد وجدت ضعفا فتقوت بمؤامراتها الاستعمارية. لكنها لاقت فيما بعد مقاومة شرسة حتى انتصرت إرادة الوطنيين، واندحر الاستعمار. تجربة تاريخية نحاول أن نقرأ منها الدروس والعبر بمنظور "البلاغة الوجودية" التي تستهدف الاستفادة من الوقائع التاريخية، ومن التجربة الإنسانية حتى تنتفع بها الأجيال المقبلة، في أفق بناء منظور وجودي شامل يليق بالإنسانية العادلة المتسامحة المؤمنة بالحق وبحقيقة الأوبة إلى الخالق لملاقاته.

         يعرفنا الأدب أيا كان مصدره بفن الوجود، وحقيقة أطماع الإنسان، وخاصة إذا كان هذا الأدب ينطلق من رؤية فلسفية للحياة والكون والآخر.

في رحلة ريشي عناية بالغة بالتعبير الأدبي الأنيق، سمات أدبية وتصويرية وخيالية عالية، ومن ذلك دقة الوصف. قال: "يخترق الغروبُ سماءً محملةً بالأمطار، ويلهب الخطَّ الأرجواني لرأس"سبارطيل"، ويمزج الرسم المائي للسُّحب بالبقع الأكثر أرجوانية وبالتلوينات الأكثر عنفا للرسم المائي. يتلاشى الساحلُ القاحلُ تحت المُزْنات ويبدو أنه يتقدم من الأفق؛ تغربل الأرصفةُ زرقةَ الماء اللامتناهية من بقعه السوداء، فتظهر فيلا "بيرديكاريس" مثل لعبة طفل ستسقطها هبَّة ريح من على صخرتها"[8]، وصف بديع لمنظر طبيعي بمرفإ طنجة، وقدرة بيانية بليغة، إعجاب بالطبيعة في بلاد المغرب؛ لكن هل وراءه إعجاب بخالق بالطبيعة؟ أهي بلاغة للغة والوصف والقدرة على اكتشاف معالم الشخصية المغربية والنفاذ إليها، أم عجز عن امتلاك بلاغة كبرى وجودية؟ وكيف يدركها من لا يعرف مصادرها؟ إنها الأسئلة الجوهرية التي حركت إطلالتنا النقدية على مثل هذه الرحلات.

 لكن لابد أن نُقَوِّم في أفق معرفي آخر موازٍ طبيعة المرجعية الدينية التي أعطتنا أنموذجا للإنسان المغربي قبل قرن من الزمن، وهو نفسه الأنموذج الذي لم يتغير كثيرا إلى اليوم. وحتى نستطيع أن نتقدم لتحكيم رؤية البلاغة الكبرى لا بد أن نعرف من نكون، كيف كنا، وما الذي يعوقنا عن التحرر؟ لا بأس أن نستفيد من رؤية الآخر لنا بعد تمحيصها، وتبيُّن وجاهة ما فيه من الحقائق واختلال ما فيها من فساد الرؤية.

جمال بلد  وفساد  ولد

استطاع المؤلف رسم بعض معالم هذا المغرب الجميل طبيعيا ببلاغة عالية، تنم عن احترافية في صنعة الأدب، وكأنه رسم لوحات لجمال المغرب الطبيعي بالكلمات الآسرة، ولم يتردد في تصوير كل ما يراه من مفارقات دينية واجتماعية. فالمغرب بألوانه وجماله الطبيعي هو" عرس العيون الدائم"،  لكنه ظل لضعف السلطة والإدارة مضطربا، الكل يعيش في الفوضى والخوف والحيطة ويتعرض للسرقة. وضع المغرب مضطرب وخطير كما عبر عن ذلك المؤلِّف، ومن ثمة رأى أنه من الضروري"أن يُحكم هذا البلد من قِبل شعب متحضر وقوي كفاية، ليُكسر دون تأخير مقاومة الطبقات الحاكمة"[9] .  مقابل هذا، يتساءل عن إمكانية أن تحمل فرنسا هذا الوهم النبيل للمغرب، وهي التي خصصت خمسة عشر قرنا لتعلم القراءة.

أدرك هذا الأديب المستكشف أن الرابطة الدينية هي أقوى نقط قوة المغاربة في مواجهة أي عدوان أجنبي، وهذا النزوع في تصوره" كاف من أجل إلهامهم التضامن، وتعويضهم الشعور الوطني الذي يجهلونه"[10]. إنه الإسلام الذي لم يتلبس بالوطنية، وبمعرفة الحق والواجب، واحترام كل حقوق الآخرين. بمعنى آخر إنه الفهم المغلوط أو القاصر لروح الإسلام، ولمعاني الإيمان الذي يتحول إلى طاقة عمل بالحق وبالواجب وهو ما يتطلب تربية قوية، وتفهيما متواصلا لمعاني الدين. الدين أخلاق، والمتدين بحق لا يظلم أحدا. وبسبب تفاوت الناس في المعرفة التي لم تكن متيسرة وقتئذ، وليست متيسرة حتى الآن بفعل موانع جديدة، فإن صفة "الوجودية البليغة" تظل مطمحا لا يتم بلوغه إلا بثورة روحية حقيقية، يوازيها العمل والتربية على القيم مع مشاركة الجميع في ذلك.

الدين حل وسوء فهمه عائق

المغرب ككل البلدان في بداية القرن العشرين مليء بالبؤس والفساد، مثلما هو مليء بأهل الإيمان والأولياء والصالحين والرجال الأشداء، وقد تمكن الأديب الرحالة من وصف كل ذلك بإبداعية نادرة؛ كما أدرك بذكاء جوانب عميقة من نفسية الإنسان العربي. قال: "الحياة بالنسبة للشعوب الأخرى تعني التحول والتغير، أما بالنسبة للعربي فهي الاستمرار على الحال نفسه، فحين لا يُحِس بأنه الأقوى ينطوي على ذاته، ويحافظ مع ذلك على فردانيته.."[11]. مصدر هذه الأحكام عمق اطلاع هذا المستكشف على رؤية الشعوب الأخرى للعالم، ومعرفته بالطبائع البشرية، إنها ليست فقط رحلة في البلدان بل في وجدان الشعوب. تحت أسمال العربي يوجد شخص أشبهُ بمَلِك، جمال الإنسان العربي يخفي تناقضات، ولا يمكن – في منظور الكاتب دائما- أن تطلق عليه حكما، فقد تجد ما يناقض ذلك الحكم. فالأسمال قناع قد تخفي جلالا.

لبيان جوانب من صورة المغربي في بداية القرن العشرين، سنتوقف عند بعض حالات السرقة التي توقف عندها هذا المستكشف، والتي أثارت اندهاشه، ومن ذلك ما حضره من حالات للتقاضي بشأن السرقة،  ودفاع المتهمين عنها بحجج واهية، وغياب القضاء الصارم. يقول أحد المتهمين  بسرقة حصان:" كنت أسلك الطريق بحثا عن حبل كنت في حاجة إليه، فجأة رأيت واحدا، أخذتُه، دون أن أدري أنَّ هناك حصانا مربوطا به، وواصلت طريقي، مستعجلا قليلا بحلول الليل، بوصولي قرب خيمتي، التفتُ...ماذا رأيت؟ هذا الحيوان كنت أجُرُّه دون أن أعرف، وبسبب هذا الفعل عومِلت كلص..يا للعار!". وكان حكم القاضي: أن يُرجع الحبل والحصان معا [12].

يسرق لصان قطيعا من الأغنام، ولا يتفاهمان عند قسمته، يقول أحدهما للقاضي:

-          أرجوك أن تنصفني بخصوص قطيع الأغنام الذي سرقناه من قبيلة أنجرة....

-          أوه! أوه! يا لك من جريء..هل ينبغي أن أعالج السرقات مثل الإرث. كفى! قم واذهب إلى حال سبيلك؟

-          يا إلهي ! لم تعد هناك عدالة في الدنيا، يتنهد اللص ويبتعد متذمرا.

السؤال المحير الذي لا يزال قائما ما هي مستويات المعرفة بالحق وبالواجب لدى شعب بدوي، أَلِف السيبة والنهب، واعتادهما أسلوبا للحياة والغلبة. ورغم وجود سلوكيات دينية إسلامية، لكنها لا تكشف عن فهم صحيح للدين، ولمعاني الإيمان؛ إسلام تقليدي غير معمق، تَلَبَّس بهوية محلية، وبعادات عريقة في العيش، حتى أصبحت السرقات عنده حقا من حقوق العيش. ولذلك يستغرب هذا المستكشف -انطلاقا مما تعرض له من سرقات أثناء رحلته- هذا الوضع المنفر، مما جعلته ينتهي إلى حكم عام يظل قابلا للمناقشة. قال: "في المغرب الكل يسرق؛ الأبناء يسرقون آباءهم، البنات يسرقن أمهاتهن، الزوج يسرق زوجته، والقبائل تسرق بعضها البعض، وحين يُراد الشروع في تحقيق، من المستحيل الخروج من هذه السلسلة من الحيل، ومن الأكاذيب ومن الخداع التي تتوقف أربع أو خمس مرات في اليوم، أثناء الصلوات والوضوء بالمسجد.

   في نهاية اليوم، يعي العربي أنه احترم ربَّه، واحترم أباه، واحترم رئيسه، وأنه فقط تخلف عن احترام حق الملكية، فينام راضيا عن نفسه، وممتلئا باحتقار الرومي...بينما نحن المسيحيون الذين نفتقر طول النهار إلى احترام الله، واحترام أب العائلة، واحترام السلطة، ولا نحترم سوى شيء واحد وهو الملكية، وننام راضين عن أنفسنا وممتلئين باحتقار العربي. مَنْ مِنَ الاثنين مخطئ ؟ هنا المشكلة"[13]. 

في رحلة مستكشف آخر قضى خمسة أشهر بين البيضان في الصحراء، نجد تصويرا عجيبا لمشهد أعراب كانوا يصلون، فلما أنهوا الصلاة رأوا قافلة مارة، فانقضوا عليها ونهبوها وسلبوا أهلها ما عندهم، بل قتلوا منها أفرادا عديدين. كما نجد الصورة نفسها في رسائل إمانويل شلومبيرجر[14]، رحلة إلى المغرب، مؤرخة من 13 مارس إلى 25 أبريل 1882م وجهها إلى والدته بفرنسا، يدعوها فيها لزيارة المغرب، كما طلب منها أن تحفظ الرسائل حتى يستثمرها في تدوين مذكراته. بقيت هذه الرسائل مخطوطة لأكثر من قرن بالنسبة للقارئ العربي على الأقل، ثم تُرجمت مؤخرا إلى العربية كما ذكرنا. قام شلومبيرجر برحلة ديبلوماسية إلى المغرب لملاقاة الحسن الأول، بهدف توقيع اتفاقية سلام وحسن جوار بين المغرب وفرنسا[15].

  العرب ليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه  

 ذكر ابن خلدون في الفصل السادس والعشرين من مقدمته أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، وذلك أنهم" أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلُقا وجِبِلَّة، وكان عندهم مَلذوذا لما فيه من الخروج عن رِبقة الحُكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له.....وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخد أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والمُلك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخراب العمران"[16].

         يفسر ابن خلدون ما عليه العرب من بُعد عن أسلوب الحضارة والعمران بتنقلاتهم المستمرة وعدم استقرارهم، ثم بسبب نوازع الانتهاب المركوزة في نفوسهم، وفقرهم النفسي، وانتهاجهم سبيل التغلب والقوة في سائر أحوالهم. ثم يضيف سببا آخر وهو أنه" ليست لهم عناية بالأحكام، وزجر الناس عن المفاسد، ودفاع بعضهم عن بعض. إنما همهم ما يأخذونه من أموال نهبا أو مغرما..."[17].

         هذه أحوال قديمة عند العرب ذكرها ابن خلدون(ت808 ه)، وتكلم عنها مؤرخون آخرون، بل إن الرحلات المغربية القديمة إلى الحج(العبدري، وابن بطوطة، والناصري،...) ذكرت ما يتعرض له الحُجاج عادة في طريقهم من قتل وسرقات ونهب، ووصفت ذلك وصفا واضحا. فكيف يظل هذا راسخا متواترا في هذه الأمة إلى يومنا هذا؛ أخذ ما في أيدي الناس، والتجافي عن الأحكام والقوانين. بل رأينا هذا في زمننا أثناء سقوط العراق مثلا ما حدث من انتهاب المتاحف والآثار والممتلكات، وفي ليبيا وسوريا...

 أهي أحوال عارضة أم بنية نفسية عميقة متأصلة تحتاج علاجا تربويا إيمانيا وفلسفيا انطلاقا من تعليم الناس  حدود الحق وحدود الواجب؟! 

وضَّح الدين الإسلامي حِرمة أخذ ممتلكات الآخرين، أو الاعتداء على أعراضهم، وفصَّل في ذلك الفقه الإسلامي، وحدد العقوبات المترتبة عن ذلك. الأمر إذن نابع من جهة البعد عن أحكام الدين وعدم فهم مقاصده، واعتماده على مكارم الأخلاق، ومن أهمها احترام ملكية الغير. وبلا ريب فليس هذا حُكما عاما .

        إن ما يصوره الأدب ويوضحه التاريخ المدَوَّن، وما يُقدمه الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بل ما نراه في واقعنا يوميا، يدعو إلى تأملات عميقة لهذه النقائص من قِبل أجيال المستقبل حتى تعي حقيقة التمدن والعمران، وحقيقة الدين والإيمان؛ فالواحد منا اليوم لا يكاد يأمن على شيء من أشيائه وهو في الشارع، فتجده حريصا على أن لا يُسْرَقَ هاتفه، أو نقوده أو حذاؤه. فلماذا وصلنا إلى هذا؟!

      أهل الخير والفضل لا يزالون بيننا، ولعل سبب استمرارية هذه المجتمعات هو غلبة أهل الخير، ووجود الصالحين والمؤمنين. هناك خير كثير في البلاد العربية الإسلامية، ورجال كُثر من أهل العلم والتقوى والصلاح. ولذلك قصدنا تقديم صورة عما يعوق هذه المجتمعات عن تنمية حضارية شاملة، وحاولنا ربط ذلك بأسبابه الفطرية والاجتماعية والسياسية، وليس هدفنا تخليص الأفراد فحسب، فإنهم لا يخلصون إلا بتخليص الرؤى الاجتماعية مما يعوقها من أسباب التحرر من الماديات، ومن حب الامتلاك، وباب ذلك معرفة الحق والواجب، واحترام ممتلكات الغير والإكبار به حضورا وغيابا.

           أمام أهل الرأي والحكمة والأدب والبيان جهود كبيرة لمغالبة ما يُحطم شخصية الشاب المسلم، وتقوية الإحساس بالهوية وبالانتماء الوطني، والاعتزاز بالدين وبالثقافة، مع الانتفاع الذكي بما تقدمه الحضارة الغربية، بانتزاع الإيجابيات وترك السلبيات، وهذا يحتاج إشاعة فلسفة الوجود البليغ، وفلسفة الخطاب الأبلغ، وتحميس الأجيال كي تقدم الأنموذج الحي عن الأخلاق المحمدية، وإنما يتم ذلك بالتثقيف، والتعريف بالشمائل المحمدية، وبالشخصية العربية المسلمة القوية روحيا وأخلاقيا. وهذا دور الآباء والأمهات العالمات المؤمنات، مما لا يتحصل إلا بالتعليم الإيماني والثقافة الأصيلة، والاعتزاز بالهوية والانتماء الوطني والإسلامي، وهو حاصل مستقبلا؛ فلا بد أن تنهض هذه الأمة العظيمة بعد كل هذه الجراح والنكسات، ولا بد أن تجدد دينها ورؤيتها للعالم . فإن القلوب –كما يذهب ابن خلدون- "إذا انصرفت إلى الحق، ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله اتحدت وجهتُها فذهب التنافس، وقَلَّ الخلاف وحَسُن التعاون والتَّعاضُد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة"[18].

إنها حالة من التناقض في شخصية الإنسان العربي المسلم لكن بغير إطلاق، فهو يؤدي الشعائر، ويذكر الله، لكنه لا يتوانى كلما أتيحت له الفرصة في الاعتداء على غيره. إسلام غير مفهوم، ومركبات نفسية غامضة ذات طابع "بدائي". لم يتغلل الإيمان في القلوب فيصدها عما نهى عنه الشرع من حقوق الآخرين وأعراضهم ودمائهم، أخطاء فادحة بسبب فهم سطحي للدين، وتأويل فاسد للوجود يستحل الحرام، ويبرر كل شيء بالانتفاع الشخصي دون الاهتمام بالمصدر والمآل.    

 مقابل ذلك قد تجد إسرافا في العناية بالدين وضوءا وصلاة وحضورا في المسجد. لكن بمجرد الخروج منه تستباح الحرمات والممتلكات والأعراض باليد واللسان.  هناك خلل كبير في فهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وافتقار في إدراك معانيها وأسرارها. وهذا ما لا يزال يحدث في أيامنا هذه مما نراه من قتل المسلم للمسلم في البلاد العربية، وهو يصيح: الله أكبر. ومما نراه من استباحة الأعراض باللسان بسبب فهم فاسد لروح الدين ولمقاصده، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه...

 يحدث هذا لغياب المعنى الإيماني، وعدم فهم حقيقة الدين فهما صحيحا، وبالتالي يصبح التدين نفسه مفرغا من المعنى بسبب هذه الممارسات الشائنة. إن بعض ما وصفه هؤلاء المستكشفون رأينا في زمننا ما هو أقسى منه وأفظع وأمَر، عندما يقتل العربي المسلم أخاه ويستبيح بلاده وعرضه ثم يقف أمام ربه ساعيا في رضاه.  جاهلية عظمى داخل الإسلام. والسبب الافتقار إلى علوم الفهم، وإلى نورانية المعاني الإيمانية التي تجعل العبد يتفقد مسار نملة حتى لا يؤذيها لأنها تسبح بحمد ربها وإن كنا لا نفقه تسبيحها؛ فكيف بالإنسان الذي كرمه الإسلام، وحَرَّم قتله إلا بالحق، وشدد في عقوبة من يقتل مسلما، وتوعده بنار جهنم، وبغضب الله عليه في الدنيا والآخرة، وبالعذاب الشديد.

وأما ما ذكره ريشي من احترام المِلْكية رغم عدم القيام بالشعائر اليومية، فإن كل ذلك إنما هو من تأثير التربية الاجتماعية، وضعف إشاعة الحق، وعدم التشديد في تطبيق القانون. ورغم أن بلوغ هذا المطمح هو جوهر رسالة الدين الإسلامي، فإن حقيقة هذه العدالة تظل نسبية، فقد برهن لنا التاريخ أن هذه الأمم التي تمكن فيها الناس من احترام حقوق الآخرين هي أجرأ الأمم على قتل الشعوب واستعمارها، ودليل ذلك ما انخرطت فيه أروبا من حروب عالمية أتت على الأخضر واليابس.

  ليست هناك حضارة نقية، وإن ظهرت عليها بعض معالم التقدم الفكري والمادي والقانوني، وإذا تأملت ذلك عميقا، فهو ليس دليلا على إنسانية كونية مشبعة بحق الشعوب والأمم، الأفراد والجماعات، وهذا ما رأيناه في العقود الأخيرة من تدخل القوى المسماة "عظمى" في العراق، وسوريا، وليبيا، وأفغانستان، وما تقترفه في فلسطين بأساليب شتى عسكرية وديبلوماسية.

ليس هناك نقاء يد، ولا نقاء قلب، وإن زعموا ذلك، فباسم القوانين الدولية يتم القضاء على الشعوب الضعيفة، ويتزايد خطر الظلم بما يولده في  النفوس من أحقاد وغضب مستقبلا، ولا خيار لإصلاح أخلاق المجتمعات وقادتها إلا بالإيمان واحترام مقاصد الشريعة الموجهة للعالمين.

الظلم من شيم النفوس

الظلم من شيم النفوس، إلا تلك التي امتلأت بالإيمان وخشية الرحمان. ولذلك فما تصوره تلك الرحلات الأدبية لا يشير إلى الحقيقة كاملة، ومن ذلك أن الدول الغربية التي تدعي التقدم واحترام حقوق الإنسان هي التي تورطت في الاعتداء على الشعوب والأمم المستضعفة، سواء باستعمار فعلي وعسكري، أم باستعمار سياسي، أم جشع اقتصادي، أم استعمار لغوي وثقافي،  وهو أخطر لأنه لا يُدرك معه مستعمر فعلي، وإن تغلغل في هوية الشعوب حتى ينسيها هويتها ويذوِّب أصالتها ومرجعياتها.  

ولذلك نجد في الحكم الذي أطلقه شلومبيرجر بعض القسوة، ومجانبة الحقيقة، مع نظرة استعلائية، فهو ينطبق أيضا على الأمم الأخرى. قال:" إن السلالات المسلمة تشبه المومياء المصرية، نادرا ما تتغير لأنها ميتة؟ وبسبب غياب التقدم يحافظ هذا البلد المتعب من إنتاج رجال جدد وشعوب شابة، بأمانة كبيرة على الطابع المادي للقرون البائدة"[19]. نَعم التغير بطيئ في المعتقدات والتصورات، ولكنه كذلك بطيئ في روحانيات الغربيين وإيمانهم، فهم يتمادون في الماديات، وفي احتقار الشعوب والأمم وسحقها، وقد شاهدنا في زمننا هذا كيف تحولت القوة الغربية إلى وحشية فكرية وثقافية وإعلامية وإلى قوة خفية وظاهرة لإفساد أخلاق الشعوب، وتدميرها بكل الوسائل المتاحة إعلاميا وثقافيا، حتى مسخت هويتها، ودمرت شخصيات الأفراد، وغرتهم بالشهوات والملذات، وزينت لهم الدنيا باعتبارها المقصد الأول من الحياة، ونشرت فلسفة الرذيلة والعري والتحرر. وهو ما انضاف اليوم إلى معاناة الأمم الناشئة والسائرة في طريق النمو.

 لم تميز الثقافة الغربية أبدا بين غث وسمين تقدمه لهذه الأمم، بل سلكت سبيل الرأسمالية العالمية الجشعة التي تبرر كل شيء بالتحرر والاغتناء والاكتساح والسلطة.

من ثمة فإنه لا خلاص لنا ولغيرنا إلا بإصلاح الإيمان، وتجديد النظر في معاني هذا الإيمان، والتعلق بمقاصد خطاب الوحي، واحترام الآخر، وبناء فلسفة قائمة على الإيمان بالآخرة، وبالجزاء الأخروي، وإشاعة العدل والمحبة واحترام الآخر، والبحث في المشتركات الوجودية، والتمسك بالمرجعية المحمدية في روحها ومعانيها ورؤيتها للعالم، للذات وللآخر، وتعميق النظر في فهمنا للدين بلا تشدد أو إفراط، بل باعتدال وتسامح ونبل، واعتماد الأنموذج الحي في القول والعمل. وهذه حلبة صراع كل فرد يوميا مع الأهواء والملذات، وبحثه عما يرضي خالقه، وما يخلصه من شرور العالم، ومن عقاب الآخرة.

لنا أن نتساءل بدورنا تساؤلات فلسفية ونقدية عما قمنا بتغييره في شخصية الإنسان المغربي بعد قرن من الزمن، فإن ما ذكره هذا المستكشف لا يزال حاضرا ماثلا أمامنا، كالذي ذَكر عن السرقة،" الكل يسرق"؛ قرن من الاجتهادات التربوية، ومن البناء القانوني، ولم يتغير أي شيء. قال: "شحاذون، وأبناء شحاذين، وقطاع طرق كسالى، ولصوص متكبرون وحقيرون يعتبرون العمل مهينا بالنسبة للرجل الحر. يشكل البخل الذي لا يمل من الشكوى وادعاء البؤس واحدة من تخصصات المغرب الأكثر غرابة"[20].

   بعد أكثر من قرن من الإصلاحات، والجهود التعليمية والاجتماعية  لايزال ادعاء البؤس حقيقة واقعية نراها يوميا، بلا معالجة مقنعة. حقيقة ضعف التغير وتحقيق إصلاح جذري تظل قائمة، مركبات نفسية وتمثلات خاطئة استعصت على  التصحيح، وهي تستدعي ثورة إصلاحية شمولية تغير الأفكار، والمعتقدات الفاسدة، والتحايلات الكاذبة. إنها أسئلة يطرحها تحليل خطاب الأدب القاصد للتصحيح حتى تجد لها رؤية سياسية وثقافية يشارك الجميع في تغييرها، فمن أين نبدأ؟

نؤكد دائما وفق منظورنا للوجود البليغ أن المسألة كلها متعلقة بالإيمان بالحقائق الدينية، وتمثل ذلك على الوجه الصحيح، باعتدال وعقلانية، ورغبة واثقة من القدرة على تغيير القلوب، وتحبيب التجديد إليها، والعمل بوطنية صادقة تؤمن بالحق والواجب، وبالأثر المحصل من ممارساتنا اليومية، كل على قدر موقعه ومسؤوليته، ولا يتحصل ذلك إلا بالتقوى ومراقبة الله في السر والعلن، وتَفَقُّد المآل القريب، إلى الجنة ورحمة الله العظيمة الكاملة أو إلى الجحيم وعذاب أبدي أليم.

مقابل ما سبق، أبدى شلومبيرجر إعجابه بروحانية إيمانية عالية عند بعض المغاربة، قال: "رأيت في هذا المغرب آثارا جديرة بالإعجاب في الإيمان الإسلامي"، وإعجابا بالعمارة المغربية وفنون اللباس، ومع ذلك حرص على كشف الجانب الظاهر والخفي من تناقضات الشخصية المغربية في مستهل القرن العشرين، واستهانتها بحرمات الآخر، وإقدامها على مال الغير، واستفحال السيبة، وسيادة الظلم. هذا الظلم تلته ظلمات أعمت بصيرة الفرنسيين، وحركت شهيتهم للسيطرة والاستعمار، واستغلال الإنسان، وثروات البلاد، فبسطوا أيديهم على المغرب باسم الحماية.

       للتاريخ دلالته، وللأدب أخرى. وخاصة عندما يسمح بتأمل ما عليه المغرب في بعض الطبائع الاجتماعية والأحوال النفسية، ويُظهر حجم استيلاب الإنسان المغربي قبيل مرحلة الحماية، واستفحال ذلك أكثر من أي وقت مضى، في صورة استهلاك جارف لكل ما تنتجه الحضارة الغربية، وهو ما ينبئ بخطورة أكبر، وخاصة إذا لم  نواجه ذلك بوعي نقدي عميق بمخاطر الانجراف الثقافي واللغوي، ومساوئ الابتعاد عن الهوية والتراث، والذوبان في الأهواء الغربية المتفسخة مثل ما نرى في شوارعنا وإعلامنا وسلوكات أبنائنا.

الاستكشاف المقابل: رحلة إلى أروبا

قام جرجي زيدان برحلة إلى أوروبا سنة 1912م،  قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل، بسط مشاهداته في كتاب بديع سماه "رحلة إلى أروبا"، سيُظهر رؤية المستكشف الشرقي لبلاد الغرب. وهكذا وانطلاقا من منظور تقابلي سنحاول أن نتبين بعض معالم الحياة الأوروبية بشكل عام، مؤمنين دائما بنسبية أدب الرحلة في نقل الحقائق بموضوعية مطلقة. لكن سؤال الجدوى الوجودية سيظل يشغلنا بعد قرن من كتابة هاته الرحلات، وللقارئ المختص أن يوسع  المنظور الوجودي في ما قبلها وما بعدها من رحلات.

 سنعود لطرح إشكالية النهضة العربية بالدين وبغير الدين من جديد، في كل ما كتبه العرب المسلمون منذ أول القرن العشرين وهم يطمحون وقتئذ إلى بناء البلدان والإنسان، ولكننا رأينا في مطلع القرن الواحد والعشرين مدى جراءة العرب على الأعراض والدماء، وعاينا احتقار المسلمين للمسلمين، ونشوب الحروب، واستفحال العداءات الظاهرة والخفية.

 يصف جرجي زيدان في رحلته نظام الحكم الديموقراطي في فرنسا، وعمرانها، وحالتها الاقتصادية وصفا دقيقا، كما يصف تطور العلوم والمدارس والجامعات. ويمضي محللا ومقارنا بإجراء  تقابلات تصورية بين أحوال التعليم في مصر وفي فرنسا. ومما لفت انتباهه انتظام الناس أزواجا تلقائيا في انتظار" الترامواي" مصطفين بلا نزاع، وانتبه لغياب ظواهر اجتماعية مثل التسول. قال:" ومما يستلفت نظر المصري في باريس أنك لا تجد في شوارعها متسولا يعترض طريقك، ولا متشردا مستلقيا على الشارع، ولا غلاما عاريا أو شبه عار يتسلق الترامواي، أو يعرض عليك خدمة من حمل حقيبة أو نحوها لاشتغالهم عن ذلك بالمدارس" [21].

نستحضر هنا ما نراه اليوم بعد كل هذه الجهود التنموية في شوارعنا وأمام مساجدنا، بل نتذكر ما وصفه ريشي قبل قرن، ولم يتغير منه شيء بل ازداد. وقال متحدثا عن الفرنسيين: " ولهم ذوق في توليد الجمال مما لا جمال فيه من نفسه، بترتيب أجزائه على شكل لا قاعدة له إلا الذوق"[22] ، وهذه العناية بتنظيم الماديات وتحسين تنسيقها له تأثير على تنظيم الكلام. قال:" ويتبع ذلك ميلهم إلى تزويق الحديث، فإنه من قبيل رغبتهم في الجمال الخارجي"[23].

         اختيار هذه المقاطع ليس فيه أي تمجيد للفرنسيين أو غيرهم، بل يستهدف العرض التقابلي حتى يبني القارئ  بنفسه صورة عن تصورين للوجود مختلفين في أبعادهما العملية .

معرفة الواجب

معرفة الواجب ركن من أركان الوجود البليغ، وهي معرفة تُشعر الإنسان بما عليه من واجبات فيؤديها من تلقاء نفسه، من غير استحثاث أو ترهيب[24]، وأكثر الناس شعورا بالواجب هم أقرب للحضارة والرقي كما يذهب جرجي زيدان في مدونة رحلته؛ فـ"الترامواي" لا رقيب عليه، ومع ذلك يؤدي كل واحد واجب تذكرته. وشراء الجرائد يتم بلا رقيب، فمن أخذ الجريدة يضع ثمنها في علبة، والبائع لا يخاف من أن يُسرق. لقد نشأ الأوروبي وقد غرست والدته في ذهنه أن يعرف ما له فلا يطمع في غيره[25]، وهذا قليل في مجتمعاتنا مما يشجع القائم على تجاوز الحق، والسبب هو تدني الوعي، وضعف الوازع الأخلاقي، وهذا مما لا يتساهل فيه الأوروبيون. 

         ويتعلق بمعرفة الواجب احترام الوقت، وتجنب الزيارات من غير موعد، وعدم تضييع أوقات الغير بالزيارات الحبية، ثم يقارن الكاتب ذلك بما عندنا قائلا:" فإن بعضهم يزورك في ساعة شغلك ولا شُغل له، ويعلم أنك مشغول فلا يختصر زيارته"[26]. 

          من أخلاقيات الأوروبيين- حسب الكاتب- عدم التجسس على الآخرين، وانشغال كل واحد بما يهمه، ومن سجاياهم تعظيم النابغين من العلماء والعظماء مما يثير الحماسة في النفوس، ويستنهض الهمم للعمل، ويستحث القرائح[27]. كما لا تجد فيهم من لا يحسن القراءة والكتابة وهناك إقبال على المطالعة والقراءة من قِبل جميع الفئات الاجتماعية حتى ماسحو الأحذية والبوابون والخدم يطالعون الجرائد، وهذا أمر لا يزال مزعجا لنا إلى يومنا هذا، فنسبة كبيرة من مجتمعاتنا تعاني من الأمية.

        تحرص الأمم الأوروبية على تعليم المرأة، فهي تُدرك أهمية عطائها في الحياة الاجتماعية وفي تربية الأبناء، والفرنسيون من أكثر الأمم احتراما للمرأة.  لكن الحرية التي أعطيت للمرأة – كما يرى الكاتب- كانت لها عواقب وخيمة ظهرت في شيوع الفساد الأخلاقي، وانتشار الرذيلة :" إنهم أساؤوا إلى ذلك المخلوق اللطيف بتلك الحرية المتطرفة....وهي ضعيفة حساسة، فتعرضت لمفاسد كثيرة...ثم آل أمرها إلى ضياع العمر في الشوارع والأزقة..."[28].

مقابل هذه الأخلاقيات التي عرفها ريشي في بلاده وقتئذ، ولم يجدها في مجتمع مغرب أوائل القرن العشرين، هناك عادات سيئة في المجتمعات الأوروبية ذكرها جرجي زيدان مثل الإفراط في شرب الخمور، والفساد الأخلاقي.  إن إعجاب جرجي زيدان باحترام الغربيين للواجب، ودفاعهم عن الحق، وتربيتهم، مع بيان دور المرأة في النظام الاجتماعي أشياء مغرية حقا. لكننا لا نزال في حاجة إلى التمييز بين ما يحسن أخذه، وما يلزم تجنبه، وتحصين المجتمع منه. بماذا نأخذ إذاً ؟ وماذا ندع؟ أي أنموذج يناسبنا؟ أين الوجود البليغ والكينونة الدالة المنتجة؟

لسنا ضد الحضارة والرقي المدني والقانوني، لكن لنا أن نتحفظ في ما يسيء إلى هويتنا وأخلاقنا وأنموذجنا الروحي الإسلامي، وخاصة إذا تم تعميقه بالإيمان والتسليم وطاعة الخالق. وقد بيَّنا بتفصيل- في مؤلفاتنا- أن الشريعة الإسلامية قدمت الأنموذج المتكامل الذي يحفظ للإنسانية كرامتها، وهو أنموذج لا يمانع من الأخذ بأسباب التقدم والاستفادة من التراث الكوني والنتاج الحضاري بما لا يتعارض مع قيمه ومقاصده.

              خلاصة

          لم تفض رحلات الغربيين نحو الشرق إلى إيجاد حلول لمشكلات الشرق، ولم تستطع رحلات الشرقيين للغرب أن تنفع الغرب بما يعلمه الشرقيون من أمر دينهم . وتبقى الرحلة إلى الله شرقا وغربا هي الحل، فالإسلام الموروث المتعلَّم بالتقليد الظاهري لم ينفذ إلى حقيقة الدين، والتراث الديني والعلمي الغربي وجد اعتراضات لدى شعوب الشرق. فلا رؤى الشرقيين تُصلح ما بالغربيين، ولا رؤى الغربيين أصلحت ما بالشرقيين، وإن مَدَّتهم بالرؤى الوجيهة في عالم الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والفكرية، وإنما ينبغي أن يظل كل ذلك أدوات لغاية وجودية جوهرية وهي الإيمان بالله. قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )[29].وقال:(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)[30]. العمل الصالح مقرون بالإيمان، ولا معنى لكل منجزات الحضارة ما لم يكن وراءها إيمان راسخ وصدق نوايا وإخلاص. فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء. ولذلك يبقى المسار الروحي الواقف على حقيقة الربوبية، المُدرك لضعف الإنسان في هذا العالم  وحاجته إلى ربه هو الحل المثالي، وقد بسطنا تفاصيله في مقترحاتنا  المتعلقة بالبلاغة الوجودية الكبرى.

      العبر التي يمكن استخلاصها من هذه الجولة المختصرة في مدونات أدب الرحلة، وقد مر على كتابتها أزيد من قرن من الزمن هي:

أ- تؤمن بلاغة الوجود أن الحياة مبنية على الصراع واختلاف الحقائق، ونسبية الرؤى التي هي من وضع الإنسان لاختلاف الأهواء وتغير المصالح، لكن يبقى الأمر الذي لا شك فيه أن الأنموذج الأخلاقي المفصل  في الشريعة، والمتداول بيننا في كتب المعتدلين من الربانيين وأهل العلم هو الكفيل بتحقيق خلاص الإنسانية مما تعانيه من اضطرابات وتوجسات وأطماع وغطرسة مهما سُنت القوانين، فإن لم تحمها التقوى ومراقبة الخالق وطاعته فإن الصراع سيظل دمويا، ولا سبيل إلى تقليصه أو الحد منه إلا بالخطاب القاصد الذي يحمله أهل العلم والأدب وعلماء الدين والفلاسفة واللغويون ومحللو الخطاب والبلاغيون والسياسيون. قال تعالى:( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ  وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [31].

           ب- سنة الله في خلقه جعلت الدنيا للابتلاء، مع إعطاء فرصة الأوبة إلى الله بالإمهال لمن قرر ذلك، فذلك من لطف الله بنا. قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا )[32].ولعل حكمة الله من هذه الفتن هي اختبار صبر عباده على الطاعات واجتناب الملذات والمعصيات، وفي ذلك تتفاوت البلاغات الإيمانية العملية. قال:(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ  وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا )[33] .

    ج- الحروب والمؤامرات وظلم الإنسان لأخيه لا يزال قويا يتبدى في مظاهر شتى، ثم ينتقم الله من ظالم بظالم، سنة الله في الذين من قبل، قد لا يؤمن التفسير المادي التاريخي بهذا الفهم، ولكننا كذلك لا نؤمن بجدوى التفسير المادي إلا لوصف مظاهر ذلك الظلم . قال الله تعالى:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا  فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا  وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ )[34] أي أبطرتها معيشتها فبطرت وكفرت وطغت، وركبت المعاصي. وقال:(وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ  فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ  وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ )[35].


تحميل المقال بصيغة وورد



-أستاذ التعليم العالي، كاتب وباحث أكاديمي مختص في البلاغة وعلوم الخطاب ومناهج التأويل.  [1]

[2]- ترجمة بوشعيب الساوري، دار إفريقيا الشرق، 2016.

  [3] - ترجمة بوشعيب الساوري، أفريقيا الشرق، 2014.

[4]-لجرجي زيدان، كتاب الدوحة،2015.

 انظر كذلك: كاميل دولز،  خمسة أشهر عند البيضان، ترجمة: حسن الطالب، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، 2015. وهي رحلة بديعة مدونة بلغة أدبية جميلة، وتصور أحوال المغرب في نهاية القرن العشرين.

[5]- إتيان ريشي، رحلة في أسرار بلاد المغرب، م.م، ص32.

[6]- نفسه، ص34.

[7] - نفسه، ص46.

[8] - نفسه،ص51 .

[9] -نفسه، ص55 .

[10] -نفسه، ص60.

[11] -نفسه، ص75.

[12] -نفسه، ص80 .

[13] - نفسه، ص ص80-81 .

[14] - سبق ذكره.

[15]- نفسه،ص6.

[16] - ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، ص139.

[17]-نفسه، ص139.

[18] - ابن خلدون، م.م، ص146.

[19] - رحلة إلى المغرب، م.م، ص90.

[20] - نفسه، ص106 .

[21]-رحلة إلى أوروبا، جرجي زيدان، ص33 .

[22]- نفسه، ص37 .

[23] - نفسه، ص37 .

[24] - نفسه، ص39.

[25] - نفسه، ص39 .

[26] - نفسه، ص41 .

[27] - نفسه، ص43.

[28] - نفسه، ص52 .

[29]  - الأنعام، 82 .

[30] -الرعد، 29.

[31] -التوبة،109.

[32]-فاطر،45.

[33]-الفرقان، 20 .

[34] - القصص، 58-59.

[35]-الأنبياء 12-20.


شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: