موريس
أبوناضر
ناقد
ولساني لبناني
في مقاربة أوليّة يمكن تعريف التأويلية (الهرمنيوتيك)
بحسب المفكر الفرنسي بول ريكور بأنها نوع من التأمّل في عمليات الفهم المستخدمة في
تأويل النصوص، سواء كان هذا النص أدبياً أو فلسفياً أو دينياً، ونمط من التفكير
يركّز على علاقة المفسر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص. علاقة أهملتها
الدراسات الأدبية منذ أفلاطون حتى العصر الحديث، إذ كان الاهتمام منصبّاً
بالتناوب، تارة على مؤلِّف النص كما هي الحال مع القراءة النفسية، وتارة على النص
بالذات كما هو الوضع مع القراءة البنيوية.
والتأويلية مصطلح بدأ استخدامه في دوائر الدراسات
اللاهوتية في الغرب، ليشير إلى مجموعة من القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها
المفسر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس)، ومن ثم اتسع مفهوم هذا المصطلح في
تطبيقاته الحديثة ليشمل الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والانتربولوجيا مع عدد من
الفلاسفة أمثال: شليرماخر وهايدغر وريكور وغادامر.
إن تركيز التأويلية على علاقة المفسِّر بالنص ليست قضية
خاصة بالفكر الغربي، وإنما هي قضية لها وجودها التليد في التراث العربي القديم
والحديث على السواء. ففي هذا التراث، وعلى مستوى تفسير النص الديني نشأ تمايز بين
ما أطلق عليه "التفسير بالمأثور"، وما أطلق عليه "التفسير
بالرأي" أو "التأويل"، وذلك على أساس أن النوع الأول من التفسير،
يهدف إلى الوصول إلى معنى النص، من طريق تجميع الأدلة اللغوية والتاريخية التي
تساعد على فهم النص فهماً موضوعياً. أما التفسير بالرأي أو التأويل فقد نظر إليه
على أساس أنه تفسير مجازي لأن المفسر لا يكتفي بالحقائق اللغوية والتاريخية التي
تحيط بالنص، إنما يضيف إليها فهمه الخاص لمنطوقها ورؤيته الذاتية لمدلولاتها. بيّن
العمل على النص أنّ الأشياء لا تعطى للمعرفة في شكل مباشر، بل إنّها تتوسّط باللغة
التي تنقل من حامل لهذا العالم إلى العالم نفسه، وبذلك يكون التأويل فكّ رموز هذه
اللغة وتحرير المعنى من فعل الكتابة وفتح عالمها على الذات. بكلام آخر إن اللغة
التي تقوم بترميز العالم والواقع وحملهما عبر النص إلى الفهم، يغدو تأويلها
تأويلاً للعالم.
إن القراءة التأويلية في عرف الدكتور محمد بازي في كتابه
"التأويلية العربية" الذي تنشره "الدار العربية للعلوم -
ناشرون" في بيروت، هي حاصل تفاعل مجموعة من الأنساق المختلفة، ونتاج عمل
شبكات معرفية يتداخل فيها العنصر القصدي في الإنتاج وقنوات التحليل في النص، وقصدية
القراءة المؤوِّلة ودوافعها. لذلك يغدو المعنى المتشكّل إثر عملية التأويل بصرف
النظر عن صحّته ومقبوليّته نتاجاً جديداً يتأسّس في ظلّ منظومة معرفية وثقافية
معيّنة. إنّه حياة معنويّة جديدة لها ملامح تميّزها عن سابقاتها.
وتعدّ قضيّة التعبير اللغوي من أبرز القضايا التي تثيرها
التأويلية في ارتباطها بفهم المفسر النصّ، وإنتاج المعنى. ذلك أن منتج النص
ومؤوِّله لا يستطيعان التخلص من ذاكرتيهما اللغوية، إذ يظلّ التأويل المعتمد على
اللغة - بحسب المفكر الألماني غادامر هو - الشكل التأويلي بامتياز. غير أن الاتكاء
على معنى اللفظ، ليس دائماً معبراً سهلاً للوصول إلى القصد، خصوصاً إذا علمنا أن
اللفظ يشتغل على محاور متعدّدة: اشتقاقية واصطلاحية وبلاغية وعرفية، إضافة إلى أن
اللغة التي تنبثق عنها هذه الألفاظ لا تنفصل عن الإدراك الجماعي، وتفاعله مع عناصر
المحيط، والمخزون الثقافي والرمزي لجماعة معينة.
وعليه، فلا بدّ في كل قراءة تأويلية من استحضار الدلالات
الحافة، أو الثانوية، أو الرمزية المرتبطة بالكلمة. من هنا لاحظ عالم اللغة
السويسري فردينان دوسوسير أن كل كلمة تستدعي كل ما هو قابل لأن يرتبط بها بشكل أو
بآخر. فاستعمالنا الكلمة في أيّة حالة يدفعنا إلى استحضار استعمالاتها السابقة في
مختلف السياقات لنستقرّ من خلالها على معنى محدّد.
ويوضح الكاتب البلغاري الفرنسي تودوروف في هذا السياق أن
اللغة توجد في شكل تجريدي، وأما الخطاب وهو الاستعمال الشخصي للغة ويتمظهر في
الاستعمال إلى جانب بعض الإشارات التي تذكّر بهوية المتكلم والمستمع والزمان
والمكان والعلاقات القائمة بين العناصر اللسانية وغير اللسانية.
في تصوّر آخر للقراءة التأويلية يشير الباحث المغربي
الدكتور محمد بازي إلى اتجاه يرى أن المعنى
أو المقصد يجب أن يتماشى مع معيار الملاءمة مع القيم الثقافية، وأن يكون مطابقاً لما أراده المؤلِّف، أي لا بدّ من حصول انصهار بين آفاق النقد وآفاق النص. ويضيف موضحاً أن بناء المعنى يتمّ اعتماداً على عناصر داخلية وأخرى خارجية، تتمثّل الأولى في البنية التركيبية والدلالية، ومعرفة دقائق الصرف والنحو، ومجموع الأدب الذي هو مصدر كلّ الاستعمالات التي تتجلّى فيها اللغة. أما العناصر الخارجية فهي كل ما يتعلّق بالنص من حيث ظروف كتابته، وما تقدّمه لنا الحوارات والأخبار المتعلّقة بالشروط الذاتية والموضوعية التي كتب فيها. وكذا المعرفة النفسية والاجتماعية بالكاتب: حياته ومعتقداته واهتماماته ومذكّراته ورسائله.
أو المقصد يجب أن يتماشى مع معيار الملاءمة مع القيم الثقافية، وأن يكون مطابقاً لما أراده المؤلِّف، أي لا بدّ من حصول انصهار بين آفاق النقد وآفاق النص. ويضيف موضحاً أن بناء المعنى يتمّ اعتماداً على عناصر داخلية وأخرى خارجية، تتمثّل الأولى في البنية التركيبية والدلالية، ومعرفة دقائق الصرف والنحو، ومجموع الأدب الذي هو مصدر كلّ الاستعمالات التي تتجلّى فيها اللغة. أما العناصر الخارجية فهي كل ما يتعلّق بالنص من حيث ظروف كتابته، وما تقدّمه لنا الحوارات والأخبار المتعلّقة بالشروط الذاتية والموضوعية التي كتب فيها. وكذا المعرفة النفسية والاجتماعية بالكاتب: حياته ومعتقداته واهتماماته ومذكّراته ورسائله.
في الواقع لا يمكن فصل النص عن سياقه إنتاجاً وتلقياً.
ففي لحظات الفهم التي تؤدّي إلى بناء المعنى تنشأ حركة ذهاب وإياب بين دواخل النص
وخارجيّاته. هذا العبور من إلى وبالعكس خاضع لنظام قائم على التعرّف الأولي على
المعطيات النصية، ومن ثمّ إنشاء افتراضات حول المصرّح به والمسكوت عنه قبل الوصول
إلى مرحلة الفهم والتفهّم. وإذا حدث أن لم يحصل الفهم فإن الطريقة التأويلية
القائمة على المادة النصية تبحث عن حلول للمشكلات العالقة عبر انفتاح القراءة على
مداخل أخرى سياقية، تدخل فيها الموازيات النصية، والمواضعات اللغوية، والمعطيات
البيوغرافية، وكل ما من شأنه دعم القراءة التأويلية ومساندتها. وهذا ما قام به
الكاتب المغربي محمد بازي في تطبيق مفاهيم التأويلية على نصوص في الثقافة العربية
القديمة. الأول هو "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل" لجار الله الزمخشري، والثاني "تفسير القرآن العظيم" لعماد
الدين بن كثير، والثالث هو شرح ديوان أبي الطيب المتنبي المعروف باسم
"التبيان في شرح الديوان" لأبي البقاء العكبري.
إن القراءة التأويلية لكتابي الزمخشري وابن كثير حول
سورة "الفاتحة" في القرآن الكريم تنطلق بحسب الدكتور محمد بازي من
المادة اللغوية صرفاً ونحواً واشتقاقاً، سواء كان اتجاه المؤوِّل نقلياً أم
عقلياً، كما تستعين ببعض المرجعيات المفسِّرة لمرامي التأويل من أهل الفقه، إضافة
إلى التمثّل ببعض الأمثال والأخبار والأشعار.
ويوضح الدكتور بازي مستكملاً أن القراءة التأويلية لشعر
المتنبي تنطلق من المادة اللغوية أيضاً، من خلال الوقوف على الدلالات التواضعية
للكلمات، ثم اختيار الأنسب لمساقها داخل النص الشعري، بدءاً بعزل الكلمة الغريبة
وتعريفها بمرادفها أو نقيضها، ومن ثمّ الانفتاح على أبيات الشعر المولِّدة لمعنى
من المعاني. إضافة إلى ذلك يلعب الاشتقاق دوراً تأويلياً مهماً لفهم شعر المتنبي، حيث
تتمّ العودة إلى موازين الكلمات وصيغها، فيختار منها المؤوِّل ما يناسب البنية
الصغرى، موضوع الفهم، مراعياً في ذلك مجموعة من الضوابط كالمعنى الأشرف والأحسن
والأسهل.
يكمن الموقف الكلاسيكي للهرمينوطيقا أو التأويلية التي
يحاول استيحاءها الباحث المغربي في قراءة النص كوسيط لغوي ينقل فكر المؤلِّف الى
القارئ، ومحمد بازي من هذا القبيل قارئ ناجح في إيصال أبعاد هذه المنهجية، وتوضيح
إمكاناتها الكبيرة في تفسير النص العربي مهما اختلفت هويّته وتنوّعت مشاربه في
القديم والحديث.