التقابل في
القصة:
سنقوم في هذا
الفصل بالتطبيق على قصة "مبارزة"[1]
للكاتب المغربي محمد إبراهيم بوعلو، على سبيل التمثيل فقط، بغية البحث
والكشف عن العناصر التقابلية التي قد يفصح النص عنها أو عن بعضها، بل ورصد كل
المكونات التقابلية الخفية التي غالبا ما يسكت النص عنها. وموضوع النص \ القصة
حماية الشرف والإبقاء على عزة النفس في مكان وزمان يحفلان بالمفارقات الظاهرة
والخفية، وهو ما جعل النص ذا بعد جمالي بديع:
"وجد
نفسه في موقف حرج، وأن شرفه سيهان إذا هو لم يقبل المبارزة.. وأخذ يمعن الفكر في
هذا الشرف المهان حتى إنه خطر بباله أنه ليس مجرد فكرة، لا ينبغي أن يبلغ الإنسان
معها للتعرُّض للهلاك.. لكنه رأى الأنظار تتجه إليه.. فحاول أن يبعد نظره عن
الجميع، لكنَّ عينيه اشتبكتا بعيني رفيقه حيث فهم منها أنه لابدَّ من الإذعان إلى
طلب هذا الخصم العنيد.. واقترب من رفيقه حيث همس له في أذنه بأشياء.. اهتم لها
الحاضرون، وهم على أحرَّ من الجمر لمشاهدة نهاية القصة.
إننا لا
نستطيع أن نصف بالضبط ما كان يجول في دماغه وهو في موقفه المحرج هذا غير أننا
نستطيع التكهن مع شيء من التحفظ أنه كان يعتبر نفسه غير مؤهل لهذه المبارزة، وأن
الأولى بأحد أصدقائه الملتفين حوله أن يدفعوا عنه هذا الضيم.. ولكن فيما يظهر أنه
لا مفرَّ له من حمل السَّيف وأن يتقدَّم نحو خصمه .. وقال في ذات نفسه: "إن
هذه عادة قديمة .. ولم يبقَ معترفا بها مطلقا .. فلماذا نرجع إلى الوراء. إننا
سنكون رجعيين .. إذَا ما لبَّيت طلبه "وسعل عدة مرات في شيء من العجرفة، يريد
أن يصرخ بهذه النتيجة التي وصل إليها أخيرا غير أنه عاد إلى نفسه ليقول لها:
"لاشكَّ أنَّه سيعتبرني جبانا". وخشي أن يدخل مع نفسه في نقاش حادّ...
لذا قال في ذات نفسه: "إنني تعلمت من قبل المبارزة .. لقد كنت أتسلى مع أختي
كل مساء وكنت دائماً أنتصر عليها" وعندما وصل إلى هذه النتيجة تشجَّع يريد أن
يقول له: إنني أوافق. وانشرح عندما تخيَّل أن أصدقاءه تهللوا واستبشروا، إنه سيبعد
عنهم شبح الهزيمة لكنه طأطأ راسه عندما تذكر أن المبارزة ستكون .. بسيف حقيقي،
بسيف حاد، على نصله يلمع الموت .. وبدا له شبح الموت، فارتاع وارتجف .. وابتلع
ريقه في شيء من الاشمئزاز وهو يريد أن يعلن الانسحاب ..
والانسحاب
يعني أن يتخلى عن خطيبته الفاتنة. وعندما وصل إلى هذه الفكرة، ورجع إلى نفسه
يوبخها: "كيف أسمح له بها .. إنني خطيبها الشرعي، وإنني أمام العالم أجمع أحق
بها من غيري، وهذا الذي ينازعني بالمبارزة إنما هو رجل أحمق .. نعم رجل لا يحترم
القوانين .." وأراد أن يخرج من الباب الواسع القوانين. لكنه رأى نفسه بعيدا
عن ذلك كل البعد، إنه هنا في هذه الغابة البعيدة عن المدينة، أما شيئين اثنين: إما
أن ينازله، وهذا إما أن يؤدي إلى الهلاك، وإما أن ينتصر .. والانتصار لا أمل له
فيه اطلاقا .. وإما أن ينسحب، وفي هذا ضياع خطيبته من بين يديه .. وعلى كل لابدَّ
من الإذعان فلهذا الخصم الجبَّار أصدقاءُ، ربَّما يفوقون في شجاعتهم أصدقاءَهُ.
ولام نفسه على الخروج إلى هذا المكان الموحش الذي صادف فيه هذا الوغد .. وقال:
"إنها جريرة أصدقائي، هؤلاء الذين لم يقبلوا التدخل في فضّ هذا النزاع
.."
واقترب منه
خصمه يحدجه بنظرة صارمة، ولربما اهتزت بعض شعيرات شواربه غضبا. قبل أن يقول:
"إيه .. أنت؟ وتلعثم قبل
أن يجيبه بشيء. وقال في نفسه: "لاشك أن أصدقائي سيغتاظون إذا ما أنا انسحبت
..." واحمرت عيناه وهو يعلن لنفسه: "وإذا ما قتلت ..؟ أيروقهم ذلك
..؟" وأردف: "لماذا لا يساعدونني .. مع أنني صديقهم وأخلص لهم كل
الإخلاص.." غير أنه تذكر الحديث الذي همس به إليه رفيقه فقال في ذات نفسه:
"حقا إنه لا يمكن أن يغادر هذه البقعة إلا قاتلا أو مقتولا .. أو تقع
معجزة.." وحيث إنه لم يعتقد في يوم ما، بالمعجزات، فإنه حتى من هذا الباب
الضيّق لا يمكن الفرار.
وعلى ذكر الفرار .. فإنه عندما اقترح على صديقه ذلك. لم يشر عليه به مطلقا
وقال: "عندها سنقتلك نحن .." وقال: "إنهم جميعا أوغاد .."
وأخذه خصمه من ذراعه و
"أثبته" أمامه وهو يقول له: "ماذا تنتظر ..؟" فقال وهو يتكلف
الابتسامَ" "لا شيء يا أخي" فقال الخصم مزمجرا: "أنا لا أمزح
معك ..؟" عندها نظر إلى قسمات وجهه القاسية، وشواربه المضطربة .. فأيقن أنه
هالكٌ لا محالةَ .. وقال في نفسه: "أيُّ ذنب اقترفته حتى أستحق هذه الميتة
البغيضة ..؟ ثم ماذا ستقول عني خطيبتي ..؟" وعندما تجسمت صورتها أمام عينيه
.. خاطبها في ذات نفسه: "لو تعلمين يا حبيبتي ما أعانيه من أجلك .. يا
حمامتي، لو استطعت أن تدركي مقدار هذا الموقف الذي أنا عليه لعلمت أنني أحق بحبك
وجمالك من غيري .. إنني عمَّا قريب سأموت ... وسيعلنون على مسامعك ذلك.."
وعندما وصل إلى هذه العبارة قال في ذات نفسه: "ربَّما ساعتها لن تهتم بي ..
إنها ستكون مشغولة البال بهذا الوحش الضاري.." وفي سرعة البرق غزت قلبه وساوس
وظنون لم يكن يحسب لها أي حساب.." "وإذا كانت على صلة به من ذي
قبل..؟" وعندما تساءل عن ذلك في سرّه، أجاب نفسه بقوله: "إذن أموت أنا
من أجل لاشيء..؟ إنها بلا شك كانت تحبه.." وأبعد نفسه في التفكير في ذلك:
" لا إنها لا تعرف أحدا سواي .. إنها تخصني بحبها ..؟ وقالت له نفسه في شيء
من الشماتة: "ومع هذا يمكن أن تحبه إذا علمت أنه أقوى منك .." ومن هنا دخلت الغيرة قلبه وملكت عليه تفكيره،
فأخذ يفرك يدا بيد، وهو يحملق في وجوه أصدقائه، وكأنه عمَّا قريب سيعلن انتهاء هذا
الموقف العصيب...
ونظر
إلى رفيقه نظرة فيها مغزى .. فأعلن الرفيق هاتوا سيفا آخر.."
ولم يكن يخطر ببال أصدقائه مطلقا أن يشاهدوه على هذه الشجاعة المفرطة، فلقد
أمسك بالسيف وكأن له به خبرة من زمان .. ولوح به في الهواء ذات اليمين وذات الشمال
.. فتعجب أصدقاؤه من ذلك، وأيقنوا أنه سينتصر ..
والتحم الخصمان .. وسمع الجميع صليل السيفين .. كان يتقدم مرة، ويتأخر
أخرى، ويدور عن يمينه وعن شماله. وهو يتلقف ضربات خصمه غير أنه - فيما يظهر- لا
تكفي الغيرة وحدها في هذا الميدان، لذا فعلى حين غفلة كان يصيح صيحة مدوية ...
استيقظ على إثرها من نومه، فزعا، يلعن الدُّون كيشوت[2]
وطواحين الهواء".
بمقدور المتبني للمنظور التأويلي التقابلي أن يعالج هذا النص القصصي، بل
والتعامل مع نصوص أخرى كيفما كان نوعها، لذلك سنقوم بمقاربة هذا النص حسب تمثلنا
لهذه النظرية:
الخصم العنيد والمتغطرس غير الآبه بالمخاطر، مقابل البطل الذي سيهان شرفه
إن هو لم يبارزه مبارزة حقيقية، التقابل بين الشرف الغالي والنفيس، مقابل المهانة
والإذعان للخصم غير الآبه بما يحصل أو سيحصل، التقابل بين فكرة حمل السيف ومواجهة
الخصم لانتزاع الاعتراف ودرء السوء، مقابل عدم حمل السيف باعتبارها فكرة لا ينبغي
أن يبلغ الإنسان معها للتعرض للهلاك، التقابل بين كون البطل مؤهلا لهذه المبارزة،
مقابل عدم قدرته وأهليته في المبارزة، التقابل بين البطل الوحيد وأصدقائه الملتفين
حوله والذين كان أولى بهم أن يدفعوا عنه هذا الضيم، التقابل بين تلبية طلب الخصم
في المبارزة، مقابل عدم تلبية الطلب،
التقابل بين الجبن والرجوع إلى الوراء، مقابل مواجهة البطل للخصم بكل ما أوتي من
قوة، المقابلة بين مبارزة البطل لأخته في أحد الأيام الغابرة وغلبته لها، مقابل مبارزة
الخصم والتقدم نحوه بلا كلل ولا ملل، التقابل بين انشراح وتهلل واستبشار الأصدقاء،
مقابل إبعاد شبح الهزيمة عنهم، التقابل بين الموت الذي يلمع في نصل السيف، مقابل
الحياة بترك السيف وعدم المواجهة والإعلان عن الانسحاب، الانسحاب والتخلي عن
الخطيبة الفاتنة في مقابل عدم السماح فيها باعتباره خطيبها الشرعي، التقابل بين
مكان الغابة البعيدة والموحشة والتي تغيب عادة فيها القوانين، مقابل المدينة التي
تحترم القوانين، التقابل بين منازلة البطل للخصم وقد يؤدي به ذلك إلى الهلاك،
مقابل الانتصار الذي لا أمل له فيه مطلقا، التقابل بين الانسحاب وضياع الخطيبة بين
يديه، مقابل الإذعان للخصم الجبار وتملكه لخطيبته، التقابل بين الرغبة في تحقيق
رغبة الأصدقاء بمواجهته للخصم، مقابل اغتياظهم حين انسحابه، التقابل بين مغادرة المكان
أو البقعة الغابرة قاتلا أو مقتولا، مقابل حصول معجزة تخلص البطل من معاناته،
والتي يعرف البطل بأنها لن تقع مهما حصل، لأن عصر المعجزات قد انتهى، التقابل بين
الفرار وعدم المواجهة، مقابل قتل الأصدقاء للبطل الذي سيخيب آمالهم إن فكر في
الفرار، التقابل بين حمل السيف كرمز للعزة والشرف، مقبل خذلان الشرف والأصدقاء،
التقابل بين كونه في حلم جعله يعيش هذه الأحداث، مقابل الاستيقاظ من النوم\الحلم
وانتهاء المبارزة.
تقابل العنوان:
تسمح لنا هذه النظرية من أن نشتغل على كل التقابلات التي يحفل بها النص، بل
والتعامل "مع العنوان على أنه مجموعة خطوط دلالية، وتركيبية، وإيحائية،
وتمييزية، تتقاطع طولا وعرضا مع خطوط النص-النسيج... معنى ونحوا وإيقاعا
وبلاغة"[3].
يتكون
العنوان من كلمة واحدة، عبارة عن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه أو مبتدأ لخبر محذوف
تقديره هي، وفي كلا الحالتين إحالة إلى النص. مبارزة: كلمة نكرة. من بين ما يمكن
أن تفيده النكرة: اسم يدل على شيء شائع في بني جنسه،
فهو اسم غير معيَّن، فكلمة مبارزة بهذا المعنى شائعة الدلالة، إذ لا تدل على مبارزة
معينة ومحددة، فهناك المبارزة بالسيف والمبارزة بغير السيف، ويمكن أن ندخل فيها مجازا
المبارزة الكلامية... وقد جاء العنوان جملة اسمية دلالة على الثبات في المبارزة،
ثبات المبارزة وديمومتها في الزمن الحاضر الذي ينفتح على المستقبل بكل تجلياته.
وإذا قمنا بتحليل العنوان دلاليا نجده يحيل إلى:
المبارزة: المبارزة بالسيوف، الصراع بين شخصين أو خصمين حول الفوز بشيء
ما... أو يقتضي غالبا ومغلوبا أو قاتلا ومقتولا في نهاية المبارزة.
المبارزة عملية تقتضي شخصين على الأقل، وفي التحام الشخصين يسمع قرع
السيوف، فبالمبارزة يمكن دفع المكروه المحدق بشخص ما، به يمكن أن يحصل على الشرف،
شرف الفوز، وشرف الجائزة، بل يمكن أن يحضى بأكثر من ذلك، خصوصا إن كانت المبارزة
بلا قوانين تنظمها ولا مكانا معينا يحتضنها، إذ ستجلب له الاهتمام، وتسلط عليه
الأضواء، لأنه أخرج نفسه ومن معه من دوامة الموت.
المبارزة تعني الحركة في مقابل السكون والثبات، الحركة ستهيمن على
المبارزة، حركة السيف، حركة الجسد، حركة العينين، ومعنى ذلك أن التباث سيكون معطلا
بلا وظيفة، وتبقى الحركة وما يمكن أن ينتج عنها سمة مهيمنة حتى النهاية.
في التقابل العنواني أو النص المصغر كما يسمي ذلك مؤسس النظرية "محمد
بازي"، نشعر بوجود تقابل قوي وعنيف بين خصمين كما يوحي بذلك العنوان، إذ لا
يمكن الحدوت عن مبارزة دون قتال أو حركة تذكر، الشيء الذي يفتح أفقا تأويليا حول
مدى نجاعة هذه المبارزة وقدرتها في تخليص الإنسان من دوامة المعاناة، دوامة فقدان
الثقة، العزة، الشرف...
وبهذا يكون التقابل العنواني عتبة أساسية لفهم النص والغوص في كل ما يحيط
به، والبحث عن المعنى الذي لا شك يوجد بين هذه العوالم المتقابلة، عوالم فعل
المبارزة، التي يلتقي فيها ماهو نفسي أو اجتماعي بواقع قائم على كل التناقضات
والمفارقات، وهو ما صنعه بوعلو. هذه العوالم المفترضة تقتضي لدى التلميذ \ القارىء
إمكانيتين متقابلتين: إمكانية تحقق كل هذا نصيا، وإمكانية عدم التحقق. وفي
الحالتين معا لا بد من اقتحام النص، النص المكبر الذي سنكشف من خلاله عن كل
الاحتمالات الممكنة.
[1]
نشير في هذا الصدد إلى أن اختيارنا لهذا النص راجع إلى كونه مقرر ضمن
الكتاب المدرسي: "الممتاز في اللغة العربية" السنة الثانية من سلك
البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية،مكتبة الأمة، ط 2007، 27 يوليوز 2007.
[2]
دون كيشوت: بطل رواية اسبانيا ألفها سرفانتس بين 1605 و 1616، وهو فارس يعتقد واهما أنه بمحاربة الطواحين
الهوائية يحقق بطولة ومجدا.