صدور مؤلف المدرس البليغ للدكتور محمد بازي


محمد بازي
صدر عن دار القلم العربي للنشر والتوزيع كتاب" المدَرِّس البليغُ: مبادئ أوليةٌ لمشروعٍ قِرائيٍّ مُتعددِ الاستراتيجيات". أتقاسم ما جاء في مقدمته مع القراء وأهل الاختصاص لكل غاية مفيدة. مع أطيب تحياتي لكل الأصدقاء .




مقدمة الكتاب
لا يزال للأدب دور في تشكيل الرؤى والتمثلات والهويات، وإحداث التأثيرات القوية في المستقبل كما أحدثها من قبل. ولا يتحقق ذلك إلا بتدريس بليغ للأدب الرفيع والمعاني السامية البناءة، من قِبَل مُدرس متذوق، له قدرة على إفهام الآخرين والتأثير فيهم بأسلوبه الجذاب، ومنهجيته التأويلية والتحليلية الدقيقة والفعالة، ومناوراته المتنوعة في الإثارة الفنية وفي الفهم والإفهام
بناء إنسان الغد يبدأ من اليوم، وصورة الأمن المنشود مستقبلا لا بد أن تتحكم فيها استراتيجية تكوينية للأفراد على مستوى كيفيات الفهم، ومضمون ذلك الفهم، والاستراتيجيات المنضبطة بقواعد سليمة لبناء المعنى. ومحصل كل هذا أن أنموذج الإنسان المأمول هو نتاج المعاني والأفكار والنصوص التي نقدمها له في مرحلة النمو وتشكل الوعي، كما أن مواقفه مما يجري تبعا لذلك هي نتاج حسن فهمه أو سوء فهمه لما يقرأ، وبالأخص النصوص المؤثرة في الحياة الإنسانية
لعل ما يجري في عالمنا اليوم من اضطرابات، وصراعات، وحروب، واقتتال، ونزوح،... يعود عند التأمل العميق إلى عدم التمكن من أدوات فهم الخطاب الموجه للإنسان على الوجه الأكمل، وتأويل ما جاء به التنزيل على الصورة المطلوبة، بل إلى عدم القدرة على تقويم الخطابات الثقيلة التي عُنيت بتربيته الروحية والعقلية والنفسية، واستخفافه بها .
الفهم البليغ أساس بناء الحضارة، أما سوء الفهم فيحول ما ُبني عبر التاريخ إلى حطام ودمار وخصامات ودماء، لغياب تأويل صحيح وسليم للنصوص والخطابات. لذلك فإن تحقيق أدوات الفهم السليم المقيد بضوابط ومسارات مقبولة هو مستقبل الإنسان المتحضر، ومستقبل الأمن الروحي والمادي الذي يطلبه الجميع. وإن إلقاء نظرة على طريقة فهوم الناس للخطابات على مواقع التواصل الاجتماعي وتفاعلهم يؤكد هذه الحقيقة، إذ تغيب الدقة، والتحليل الموضوعي، ويحصل الانسياق وراء الانفعالات والرؤى الشخصية، وتحدث انزلاقات كبيرة وخطيرة في الفهم والتأويل، بل واعتداء وتهجم غير مقبول على صاحب الخطاب.
يجد محللو الخطابات في ذلك مؤشرات قوية على علل واضحة في التعامل مع الخطابات، تكشف عن عيوب كبيرة في طريقة تعاملنا مع فهم الخطابات، وعدم استحضار السياقات الضرورية للفهم، وطغيان التعويم الإيديولوجي، واستحكام النزعات الشخصية والعرقية والحزبية والدينية. وهذا ما يُظهر أن المدرسة فشلت في تزويد المتخرجين منها وروادها بأدوات التحليل الموضوعي، بمنهجية الرؤية العقلانية المتجردة من الأهواء، واستخدام أدوات تحليل مناسبة في الفهم والتذوق والتقبل والإقناع تتقصد الفهم المقبول والسليم وباستراتيجيات متنوعة. والأخطر من هذا أن تجد تخبطا في تحليل الخطابات بالمدرسة نفسها، وعقما في الاشتغال على النصوص، وانسياقا مع المنهجية المعتمدة بشكل حرفي وتقني مسيء للأدب ولتدريسية الأدب
انطلاقا من هذا الربط بين مبادئ الفهم وبناء تأويلية الإنسان المعاصر، يسعى هذا المشروع التدريسي إلى إعادة الاعتبار لفعل القراءة وأدوات الفهم بالمدرسة، كما يروم تحسيس المدرسين بأن المنطلق هو المعنى وفهمه، في أفق تمكين المتعلمين من أدواته وكيفياته نظريا وعمليا
تتشكل تأويلية الإنسان البليغ من مجموع ما فهمه وما بناه من تمثلات، ومن علاقات مع النصوص والخطابات، والصور وكل أشكال السِّمياء التواصلية المحيطة به في الإعلام وفي الشارع وفي المدونات والكتب والرقميات الحديثة؛ فإذا حسَّنا أدوات الفهم، ودققنا في كيفياته، وحددنا ضوابطه، وأسسه، وحدوده، وممكناته في المدرسة، وقدمنا نظاما معتدلا من التفكير ذي المرجعية المعرفية الصحيحة، فإن ذلك سيمتد إلى علاقتنا بالنصوص الأكثر تأثيرا مثل الخطاب الديني، والخطاب السياسي، والفلسفي. بل إلى علاقة منتجة مع ما نقرأ على المواقع الإخبارية، وعلى فهمنا للوجود من حولنا، بل إلى اتخاذ القرارات المناسبة، وبناء التمثلات بناء جيدا منتجا يسهم قريبا أو بعد حين في تطوير المجتمع وتحسين التمثلات الرائجة بين أفراده، إذ ليس ما نراه من تطورات مادية وقانونية إلا نتاجا لفهم حاجيات الإنسان، والبحث عن السبل الكفيلة بتحقيقها
سيكون لتدريس الخطابات بمنهجيات متعددة، وبرؤى سليمة، ومفهوم صحيح للأدب، وامتلاك معمق بنظريته وبمناهج فهمه، دور كبير في صناعة المدرس البليغ، المدرس المتحكم في أسس الفهم وأدواته ، المدرك أن التأويل مهما كان اجتهادا لا بد له من ضوابط، الحريص على استحضار مرجعية الهوية والفلسفة العامة المتوافق بشأنها ثقافيا واجتماعيا وتربويا عند دراسة النصوص الأدبية وتحليلها وتقويم رؤيتها للوجود ومقاصدها، ومستوى بلاغتها الفنية والوجودية.
لا نريد أن نعيد في هذه المقدمة كل ما ذُكر عن مسؤولية التأويل في ما وقع للأمة قديما، وما يقع لها حاليا. ولكن في ما نرى وما نسمع من أهوال ما يستلزم تحسين أدوار المدرسة في ضبط أدوات الفهم، بل في جعل الفهم أولوية من الأولويات الكبرى لتحقيق علاقة دقيقة عالمة مع الخطابات، وبناء الإنسان انطلاقا من ذلك، وتوسيع دائرة الحوار، وتقدير مسؤولية ما نجنيه على الأمة من اصطناع كثرة الخصوم بسبب سوء الفهوم
ترتبط بهذا المدخل كل الإشكاليات المتعلقة بتدريس النصوص مدرسيا: هل حققت منهجية تدريس الأدب أهدافها؟ أيحصل لدى المتعلمين تعلق بالأدب وفنونه تبعا لما يسعى إليه المنهاج التربوي؟ لماذا ضَعُف تذوق الأدب عند المتعلمين وعند مدرسي الأدب أنفسِهم؟ ولماذا تراجع فهم الأدب وغلبت المنهجية الآلية الجامدة، وسطحية التدريس، وأصبحنا لا نرى في أقسام اللغة العربية إلا سعي المدرسين إلى تطبيق مراحل القراءة المنهجية حرفيا، ولو على حساب أدبية النص؟ كيف نعيد لدرس الأدب، ودرس اللغة، والبلاغة، تلك القوة التأثيرية الكبيرة التي تتحول إلى قيم وسلوكات إيجابية فعلية؟ ألا يمكن تجديد القراءة المنهجية تدريسا ونقدا وتطعيمها بمقترحات جديدة: بديلة أو مكملة؟ كيف نكثر من مدرسي الخطابات البلغاء في كل التخصصات، فهم القدوة وأمل المستقبل، إننا بحاجة إلى مدرسين مُلهمين مبدعين في تشكيل الرؤى الناضجة والكفايات العليا التي تسعى إليها الفلسفة التربوية المرجعية
تبعا لهذه الطموحات، يسعى هذا الكتاب إلى الإسهام في:
  1.  قيادة تغيير فردي لدى كل مقرئ/ مدرس للنصوص بالبحث عن أنجع السبل لتحقيق قراءة حقيقية تعتمد مراتب القراءة  الأولية الحرفية، والإنتاجية العميقة، والتذوقية، والنقدية، والإبداعية.
  2.  إقرار مبدإ التدريس بالنماذج النصية المؤثرة، وتكريس منظور التعلمات بالنماذج لا بالقواعد المنهجية والقوانين
  3.  تجريب استراتيجيات متعددة: استراتيجية تصاعدية/ استراتيجية تنازلية/ استراتيجية تقابلية/ استراتيجية تساندية/ استراتيجية تحليلية خطيىة/ استراتيجية ثقافية/ استراتيجية استعارية/ استراتيجية الخرائط الدلالية، استراتيجية تصورية ذهنية.....
  4.  تعميق تكوين مدرسي الأدب منهجيا في أدوات الفهم والتفهيم، عبر ورشات الاشتغال على أنواع النصوص (وضوحا وغموضا)، (طولا وقصرا) وتدارس الاستراتيجية المناسبة .
  5.  إثارة إشكاليات تدريس الأدب بين الفاعلين الميدانيين وعدم تكريس رؤية علوية دائما، ووضع معالم مدرس بليغ للنصوص لغة وتواصلا وتذوقا وتذويقا، وفهما وتفهيما، وتدريبا على مناورات منهجية متعددة.
  6.  إشراك كل المعنيين بتطوير القراءة المنهجية لإخراجها من الآلية والسطحية(جهة التفتيش، جهة التكوين، جهة التدريس، المتعلمون..). 
  7.  تأكيد الحاجة إلى ترسيخ مبدإ التذوق، واستعادة المتعة بالمعاني الأدبية والأفكار الفلسفية وغير الفلسفية، وجماليات الأسلوب التصويري في صنعة الأدب، ثم تعليق كل ذلك ببناء وجودهم المعرفي والجمالي
  8.  تجاوز الفصل بين دروس الأدب واللغة والبلاغة، وبيان خدمة علوم الآلة لبيان المعاني وجمال النظم الأدبي.
  9.  ربط الصلة بين معاني الأدب وبين التربية على القيم والسلوكات الإيجابية الفعلية، ومراقبة تأثير ذلك على تغيير منظور المتعلم للعالم، وتمكينه من نقد المحتوى(المضامين، مقصدية النص، أطروحة الكاتب، الأفكار، سداد المعاني، رؤية العالم....) نقدا بناءً يستند إلى أدلة ومبادئ وقواعد حوارية وأصول مرجعية
  10.  إعادة النظر في التطبيق الحرفي للمنهجية المعتمدة، وتجاوز الآلية الجامدة، وسطحية الفهم في تدريس النصوصسُيمكِّن التفاعل مع أهل الاختصاص - كما نتصور- من تقوية المنظورات التي نقترحها هنا بشأن ملامح "المدرس البليغ" ضبطا وتصويبا في أفق تطعيم المناهج التربوية بنماذج جديدة، واستراتيجيات إقرائية مختلفة، وإبدالات متنوعة يمكن اعتمادها فصليا لتعميق أسئلة إقراء النصوص وتدريسيتها، مما قد يُخرج القراءة المنهجية المعتمدة حاليا من عيوب كثيرة أهمها: الآلية الصارمة، وسطحية الفهوم، وعبودية الكتاب المدرسي، وافتقاد تذوق جمال المعاني، وضمور البعد النقدي. والأهم عندنا هو تحميس مدرس النصوص والخطابات الأدبية والدينية والتاريخية لبلوغ مقام المدرس البليغ في اختياراته ومناوراته المنهجية ودقة تخريجاته التأويلية واستناده لأسس الفهم العالم، وحرصه على تدريب المتعلمين على استراتيجيات متعددة في دراستهم للخطابات وتحليلها تحليلا ملائما منسجما بليغا تخريجا وتأويلا ولغة ومنطقا حجاجيا ورؤية فلسفية.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: