التأويل التقابلي وإسهامه في فهم النصوص وتجديد دراستها (الجزء ثاني)


تتت     

     إبراهيم شكري                                


1-            خطوات منهجية التأويل التقابلي في بناء فهم النصوص
من محاسن التأويل التقابلي أنه يترك المجال واسعا للمحلل، ولا يقيده بخطوات محددة وثابتة عليه اتباعها، بل يزوده بمفاهيم دقيقة، يستعملها من أجل فهم التقابل، ويطورها أيضا إذا دعت الضرورة إلى ذلك. سنستعرض هنا الخطوات أو العمليات التي تتبعها عملية فهم النصوص من وجهة نظر التأويل التقابلي، وتتمثل في ست عشرة عملية[1]. (الافتراض التقابلي العفوي أو الموجَّه، الاستكشاف بالتقابل، التذكر والدعم والتطعيم، التوجيه وتعديل الاستراتيجية التأويلية أو عملية تصحيح المسار، إرجاع التبنين الدلالي إلى حين اكتمال اللواحق والمدعمات الدلالية، استحضار أطر موسعة، بنية النص العليا، المعاودة وتكرير محاولات الفهم إلى حين حصوله، الاحتفاظ والتخزين لحالة تأويلية جديدة، التسييق النصي بربط السابق باللاحق، وضع المعنى في سياق خارجي موسع، التطويع بالتماس المعينات التناصية والمعجمية والخبرية، التلخيص والتجميع، حذف الأفهام التي لا يدعمها معطى في النص أو خارجه ثم تعويضها بغيرها، تركيب الأفهام ومقارنتها بعرضها على غيرها أو تعميمها، الصورة الذهنية مقابلا للنص).
من مزايا هذه الخطوات أو الإجراءات، التي يحضر التقابل في كل واحدة منها، أنها ترتبط بالعمليات الذهنية التي تتم في مستوى دماغ الفرد، فهو اشتغال معرفي، يستند إلى نظريات الذكاء، والذكاء الاصطناعي، التي درست علميا الكيفية التي يعمل بها الدماغ، كما أنها تستند إلى ما توصلت إليه علوم التربية الحديثة وطرق التدريس في كون الفهم يجب أن يُنتج من ذهن المتعلم وفق عمليات معينة، بمساعدة المدرس الذي يوجه المتعلم للخطوات التي عليه اتباعها من أجل بناء الفهم الصحيح عبر التدرج، ومن شأن هذه الخطوات القرائية المتبعة المقترحة في التأويل التقابلي، وكذا المفاهيم المقدمة، الإسهام في مقاربة كل النصوص والخطابات الأخرى.
2-            جدوى التأويل التقابلي وأهميته
للتأويل التقابلي دور كبير في فهم المعنى وإفهامه، فهو عملية ذات وجهين، وجه ذاتي يتعلق بفهم مستغلقات النصوص المقروءة، ووجه غيري يقوم على فك مستغلقات النصوص المُدرسة للمتعلمين، بهذا يكون "مفهوم التقابل من المفاهيم المثمرة في الحقل التربوي، خاصة في الإيضاح وتفهيم المتعلمين، فالمعارف تتضح عندهم بما يقابلها. والمقابلة بين الماديات أو المعنويات أو المفاهيم، أو الأدوات، وسيلة بيداغوجية نافعة في التدريس"[2]، فالتأويل بالتقابلات "أداة إجرائية ناجعة في المجال التربوي والتعليمي، خاصة فيما يتعلق بقراءة النصوص وتحليل الخطابات الدينية، أو الأدبية، أو الفكرية، أو الفلسفية المدروسة، لما له من قوة قرائية وإقرائية وتفهيمية وتبسيطية، توقف الطلاب على المعاني، وكيفية صناعتها واكتشاف أسرار جمالها وبلاغاتها"[3].
التأويل التقابلي، إذا، أداة صالحة لمقاربة النصوص المدرسة بأسلاك التربية والتعليم: الشعرية، النثرية، المقالية، الحجاجية، الفلسفية، القصصية، والمسرحية...إلخ، وتوظيفه يمكن المتعلمين من اكتساب منهجية منطقية لفهم النصوص والعالم، لكن هذه الغاية لن تتم إلا من خلال تحقيق مبدأي الوظيفية والتداولية، بحيث وجب إعماله تطبيقيا بشكل واسع بعدما ثبتت نجاعته نظريا، ثم توسيع نشره حتى يصل إلى المدرسين الذين ينشدون في حصصهم تحقق الكفايات التأويلية المرجوة، ومن ثم تتحقق المتعة الذوقية الجمالية التي افتقدها المتعلمون في قراءة النصوص؛ فتأويلية التقابل "اجتهاد مثل باقي الاجتهادات المقدمة في نظريات النص والخطاب والتأويل، تكمن قيمتها في وظيفيتها، وقدرتها على حل مشكلات الفهم والتفهيم، وتعميق الأسئلة البلاغية، والمنهجية، وتذوق النصوص، وتحليل الخطابات"[4].
إن تطبيق استراتيجية التأويل التقابلي بإمكانها أن تمنحنا غنى وتعددا وخصوبة وثراء في الفهم والتأويل[5]، فالتقابل أداة منفتحة، تمنح إمكانيات كبيرة لبناء المعنى، خصوصا إذا تم الإبداع في استعمالها، فما أراه أنا تقابلا معينا بين شيئين أو عنصرين أو حالتين، قد يراه آخر تقابلا من نوع آخر، حسب اجتهاد كل واحد منا.
3-            تدريس الأدب بالتأويل التقابلي
يتساءل الكثير من المهتمين بتجديد درس النصوص عن إمكانية تطبيق تأويلية التقابل في المجال التربوي، وقد حاولنا تجريب بعض مبادئها في تدريسنا للنصوص ومكونات تدريسية أخرى فآتت أكلها بما لم يكن متوقعا، خصوصا عند الشرح بالمثال المتقابل لما تبدو علامات عدم الفهم مرتسمة على وجود المتعلمين، فيكون الإفهام بالتقابل أسهل طريق لتحصل المعاني في أذهانهم، هذا بالإضافة إلى المتعة التي تحصل أثناء اكتشاف المعنى، سواء من خلال عرضه من طرف الأستاذ، أو عند اكتشافه من طرف المتعلمين عبر أسئلة ديداكتيكية واضحة.
كما تم تجريب إجراءات التأويل التقابلي من طرف بعض الأساتذة –ممن نعرفهم- على نصوص عديدة متنوعة، وأبان هذا التجريب عن أن التقابلات التي يتم اكتشافها على مدى تحليل النصوص، في كل جملة، بل وفي كل كلمة، تقوم بتحريك فعالية التأويل لدى المتلقين، بحيث يحدث ذلك التفاعل الحقيقي مع النص، فتبحر الذات القارئة في عوالمه، ويصبح النص مترسخا في الذات القارئة، وذلك أبعد ما يصل إليه القارئ/ المتعلم في الفهم والتأثر بالأدب وتمثل قيمه، وهو غاية ما يسعى إليه كل ناقد يروم تحليل النصوص من أجل إفهامها.
والمطلوب من المدرس الذي يريد إعمال التأويلية التقابلية في فهم النصوص والخطابات[6]، أن يعتمد المفاهيم المقدمة حسب الفئة المستهدفة، فالتعليم الابتدائي ليس هو الثانوي الإعدادي أو الثانوي التأهيلي، كما أن الفئة المستهدفة تختلف بين كل سنة من سنوات هذه المراحل، بل وتختلف في المرحلة الثانوية التأهيلية بين كل تخصص، كما يمكن للمدرس أن يتبع المنهجية المقترحة في التوجيهات التربوية (التمهيد، الملاحظة، الفهم، التحليل، التركيب)، فيمهد لدرسه بمقدمة تشويقية وأسئلة تشخيصية تروم إعداد المتعلمين ذهنيا ونفسيا لدراسة النص تقابليا، وقد يصرح بذلك بأن يقول: سندرس النص الآتي دراسة تقابلية، وبعد التمهيد للدرس يقرأ المدرس النص قراءة تعبيرية يقتدي بها المتعلمون، وتحفزهم على التأمل فيه، ثم يذلل كلماته الصعبة، ويشرع في طرح أسئلة قرائية قائمة على التقابل حسب طبيعة النص المدرس، يحصل بها الفهم[7]، وبعد التحقق من الفهم ينجز تقويما تكوينيا حتى يتأكد من تحقق التعلمات والأفهام، بعد هذا يدخل في تحليل المستويات المختلفة التي تدخل في بناء النصوص تقابليا (الصور الشعرية، الإيقاع، الأساليب، اللغة...)، وفي مرحلة التركيب يبني الخلاصات المتوصل إليها عن طريق التقابل، كما يمكنه في هذه المرحلة أن يطلب من المتعلمين إنجاز مقارنات بين المعاني المختلفة داخل النص، وبين النص ونصوص أخرى، وبين طرق الكتابة وغيرها.
أشرنا آنفا إلى أن الفهم السليم يمكن أن يحصل بالتقابل، بهذا يمكن للإفهام أن يكون سليما بالتقابل أيضا، فكما نَفهم الأمور نُفهمها، و"لعل أنجح المدرسين هو الذي يفهم تلاميذه بالطريقة التي حصل الفهم عنده، إن كان قد حصل! أو كما كان يفهم عندما كان في مستوى تلاميذه"[8]، فالفهم هو الغاية المثلى من النص، وما المراحل الأخرى (التمهيد والملاحظة والشرح والتحليل والتركيب) إلا وسائل مساعدة ترمي إلى تحققه.
4-    الكفايات/ الملكات المتوقع تحقيقها عند المتعلمين بتطبيق النموذج التأويلي التقابلي
تحصل الكفايات التأويلية بتأهيل شخصية المتعلم وجعله في قلب الاهتمام، وتمكينه من مواجهة مختلف الصعوبات والمشكلات التي تعترضه. وتعتبر صعوبة فهم النصوص والخطابات من المشاكل التي تواجه متعلم اليوم، والدليل على ذلك عجز فئة مهمة من التلاميذ في المدارس عن فهم الأبيات الشعرية وغيرها من النصوص الأدبية أو الفكرية، وينتقل ذلك معهم إلى الجامعة فلا يجدون مؤهلات ذهنية واضحة ترسخت في أذهانهم من أجل فكر رموز النصوص ومغاليقها.
تهتم المناهج التربوية في بيداغوجيا الكفايات بتحقيق خمس كفايات، التواصلية، والمنهجية، والثقافية، والاستراتيجية، والتقنية. لكن متعلم اليوم يحتاج بالإضافة إلى هذه الكفايات إلى كفاية أو ملكة تأويلية تنضاف إلى الأخرى، ونزعم في هذا المقام أن نظرية التأويل التقابلي بمفاهيمها وإجراءاتها كفيلة بأن تحقق هذه الغاية.

يمكن أن تتحقق هذه الكفاية التأويلية بإكساب المتعلمين الملكات الضرورية للتأويل "من علوم نحوية ولغوية، وبلاغية، ومعرفة بخصوصيات النص وآليات التدليل فيه، وسياقاته الخارجية المختلفة والنصوص التي يشكل امتدادا لها: يتناص أو يتوازى معها"[9]. غير أن المراد من هذه الملكات قد يتحقق حين توظيفها للوهلة الأولى وقد لا يتحقق، فيقع المتعلم في وضعية مشكلة ينبغي حلها، فلا تتحصل الملكات التأويلية في نظرية التأويل التقابلي إلا بالتجريب والمعاودة، ومعاندة النصوص وترويضها[10]، ولن تتحصل إلا من خلال الإحساس بالإخفاقات الأولية التي تتناوب الفهم[11].
قد يصل المتعلم إلى حل الوضعية المشكلة، لكن لا يمكننا القول حينئذ إن المتعلم قد كون الملكة كصفة راسخة، لأن ملكات التأويل التي يفضي إليها النموذج التقابلي لا تتحصل "إلا بتكرار الأفعال التأويلية، والخبرة الواسعة بالنصوص، والمعاودة والمراجعة، والتأمل والتقصي، وتجريب فرضيات قرائية كثيرة، واختبار الأصلح منها على محكات ومعايير قادرة على الصمود في وجه النقد، إذ إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، والفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، تم تتكرر فتكون حالا، أي صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة"[12].
إن حصول الكفاية التأويلية التقابلية لا يتأتى للمتقاعسين الذين ينظرون إلى سطحيات نص أو نصين، بل تتأتى للطلبة المجدين الذين يتفاعلون مع النصوص وينخرطون في تلقيها وكشف معانيها ومقصديات منتجها. فبناء المعاني، وإعادة فهمها وتأويلها تقدم للمتعلم أنساقا قرائية قابلة للاستثمار والتطوير في مختلف النصوص، بحيث يصبح المتعلم قادرا على تأويلها تأويلا صحيحا بليغا مقنعا ومثمرا.
لقد أصبحت الملكات التأويلية طلبا ملحا في تحليل النصوص والخطابات وفهمها، إذ إن أي تحليل أو فهم لا بد أن يتضمن جانبا من التأويل، لهذا وجب إكساب المتعلمين هذه القدرة التأويلية بتمهيرهم عليها من خلال حثهم على الاحتكاك بالنصوص، فهي كالورود كلما زدتها فركا زادتك رائحة.





[1]- نفسه، ص.ص. 91-95.
[2]- نفسه ص-ص. 423-424.
[3]- محمد بازي، تقابلات النص وبلاغة الخطاب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت- لبنان، ط.1، 1431هـ-2010م، ص.176.
[4]- نظرية التأويل التقابلي، ص. 421.
[5] - انظر تقابلات النص، ص. 11.
[6]- انظر نظرية التأويل التقابلي، ص. 424.
[7]- يقول محمد بازي: "نجد في الحقل التربوي مدرسا ناجحا في عملية التفهيم، فتلامذته يستوعبون ما يعلمهم إياه أو ما يتعلمونه بأنفسهم بمساعدته، حيث ينتقلون في درسه من تمثل إلى آخر بطريقة سلسة. مقابل ذلك نجد مدرسا آخر لا يتقن فن التفهيم، ولا يستطيع أن يجعل التلاميذ يفهمون نصا ما أو ظاهرة معينة. وسبب ذلك وجود ضبابية في طريقة اكتساب المعارف، وفي تصور عملية الفهم نفسها وأدواته. فكل فهم له موضوع، وله أدوات للوصول إلى ذلك، ونتيجة ذلك تعكسها تفاعلات التلاميذ المقررة بالاستيعاب أو بنقيضه في بداية الأمر، ثم يتأكد ذلك عبر الأنشطة التقويمية البدئية أو المتخللة أو الختمية" نظرية التأويل التقابلي، ص. 87.
[8]- نفسه، ص. 87.
[9]- التأويلية العربية، ص. 138.
[10]- انظر حاتم الصكر، ترويض النص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1998.
[11]- انظر نظرية التأويل التقابلي، ص. 61.
[12]- نفسه، ص. 48.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: