تدريـــس القصـــــة من منظـــور تأويلــي تقابلـــي (الجزء الثالث)




عبد العزيز بلفقير

تقابل الفضاء: المكان والزمان
1-             تقابل المكان:
في هذه القصة تتقابل الأمكنة بشكل يجعل الأحداث التي تجري فيها تتسم بالتنامي والتطور، بل بالرمزية وفيض المعنى، مما جعل الأحداث توهم التلميذ\ القارىء بالواقعية، أي جعلها محتملة الحدوث أو الوقوع، وذلك بأنه لا يمكننا فصل المكان عن الأحداث.
المكان هنا هو "الغابة" بكل أبعاده الرمزية والدلالية، فالغابة تمثل المكان الموحش الذي تغيب فيه القوانين، مقابل المدينة التي تستند إلى القوانين والمواثيق التي تحكم سلوكات الأفراد والجماعات. إن الغابة مكان تغيب فيه أيضا كل معالم الإنسانية من إحساس بالآخر ، لا قانون في الغاب، سوى القوي يأكل الضعيف. ويمكننا توضيح التقابل المكاني في الخطاطة التالية:


  


على هذا الأساس، يعد التقابل آلية منهجية في بناء المعنى وتأويله، أي جعل الغابة هنا في تقابل مع "المدينة"، إن الغابة بهذا المعنى مكان مفتوح على كل الاحتمالات. 
2-             تقابل الزمان:
أ‌-                 زمن القصة وزمن السرد باعتبارهما بنيتين متقابلتين:
سنعمل في هذا المستوى من التقابل الزمني أن نكشف عن زمن القصة، وزمن السرد باعتبارهما عنصرين متقابلين، فزمن القصة يتم تحديده انطلاقا من الزمن الذي وقعت فيه الأحداث، وهو هنا الزمن الذي استغرقه الحلم الذي عاشه البطل.
أما زمن السرد فهو الزمن الذي استغرقته عملية السرد، إنه زمن أطول من زمن القصة بالضرورة، ومرد ذلك كون القصة ككل استغرقت وصف الحالات والوضعيات والتقابلات النفسية التي واجهها البطل فترة\زمن الحلم.
ب‌-           النظام الزمني للقصة نظام تقابلي:
يمكن الإشارة هنا إلى أننا سنتحدث عن كل من الاسترجاع والاستباق باعتبارهما بنيتين متقابلتين، نسعى إلى تحديدهما في النص، ثم إقامة تقابل بينهما بغية تحقيق المعنى، أو القيام بفعل التأويل، ويمكننا القيام بذلك من خلال ما يلي:
§       الاسترجاع:
   يعمد الكاتب -بشكل واضح- في هذا النص إلى استرجاع أحداث وقعت في الماضي، وهو ما يسمى بالاسترجاع، إذ يسترجع عن طريق هذه التقنية ما وقع للبطل في الزمن الماضي، وقد تحقق ذلك نصيا في قول السارد: "إني تعلمت من قبل المبارزة... لقد كنت أتسلى مع أختي كل مساء...". تقنية كونت لدينا صورا واضحة المعالم حول شخصيات القصة، الشيء الذي ساهم في الكشف عما تعيشه هذه الشخصيات من حالات نفسية مختلفة.
§       الاستباق:
اعتمد الكاتب تقنية الاستباق، أي وجود إشارة إلى أحداث قبل وقوعها، ويمكن أن نمثل لذلك في النص بقول السارد: "الانسحاب يعني التخلي عن خطيبته"، "إني عما قريب سأموت... وسيعلنون على مسامعك ذلك..."، وهكذا يعمد الكاتب إلى سبق الأحداث بغية أن يتعرف القارئ على أحدث قبل حدوثها، وبالتالي شد انتباهه بتوريطه في النص وجعله يتسم بالقلق والحيرة والتساؤل:
 هل ستقع هذه الأحداث؟ ماذا لو وقعت بالفعل؟
         تقابل الاسترجاع والاستباق يمكن أن يجعل أحداث القصة متماسكة منطقيا، ومنسجمة تأويليا، ومنظمة ذهنيا في ذهن التلميذ، وقد استحوذ الاسترجاع (في مقابل الاستباق) على مساحة نصية واسعة من القصة، باسترجاع السارد أحداثا ماضية بعيدة وقريبة. كم أن استعمال هذه التقنيات تجعل القصة تتسم بالجمالية البليغة التي تكمن في الإثارة والتشويق.
تقابل الخصائص اللغوية والأسلوبية:
         يظهر في النص تقابل بين اللغة الموسومة بأسلوب السخرية واللغة الموسومة بأسلوب الجدية والصرامة، ويتجلى الأسلوب الأول (أسلوب السخرية) الذي تحقق نصيا في قول السارد على لسان بطل القصة: "لقد كنت أتسلى مع أختي كل مساء وكنت دائما أنتصر عليها"، أما الأسلوب الثاني (أسلوب الجدية والصرامة) فيتمثل في قول السارد على لسان أحد أصدقائه: "عندها سنقتلك نحن...".
         كما يحضر التقابل الذهني بين ما هو جدي وما هو ساخر، فالكاتب وسم بعض الشخصيات بطابع كاريكاتوري، نلاحظ ذلك حينما وصف لنا الخصم "ولربما اهتزت بعض شعيرات شواربه غضبا"، وكذلك في قوله: "عندها نظر إلى قسمات وجهه القاسية، وشواربه المضطربة...".
استنتاج:
يمكننا أن نستنتج انطلاقا من التقابلات الظاهرة أو الخفية، إلى أن النص يهدف إلى إيصال رسالة سامية تتجلى في قيمة الأخلاق لدى الإنسان العربي، ولعل ما وقع لشخصية البطل من اصطدام بالواقع، واقع تغيب فيه الأخلاق الفاضلة، وتسود الأخلاق الفاسدة.
وانطلاقا من كل هذا، يمكن للتلميذ \ القارئ أن يخرج بخلاصة يقوم فيها بتركيب نتائج التحليل، مستثمرا إياها لإبراز البعد النفسي في النص، كما يمكن أن يبين من خلال ما توصل إليه من خصائص تحكم هذا الجنس، مدى قدرة فن القصة القصيرة في التعبير عن بعض المظاهر النفسية التي يعيشها الإنسان.
        خلاصة تركيبية:
اتسم النص القصصي بتقابلات عديدة، على مستوى مجموعة من المستويات: التقابل العنواني، اللغة والتقابل، تقابل الشخصيات، تقابل الرؤية السردية، التقابل الزمني، التقابل المكاني، تقابل الخصائص الأسلوبية واللغوية، كما أن كل مستوى من هذه المستويات يعرف تقابلات فرعية مختلفة ومتنوعة، مما يجعل النص منفتحا على كل التأويلات الكائنة والممكنة، الموجودة في النص وغير الموجودة، القريبة والبعيدة... إلا أنها تأويلات تستند لأسس تحكمها، إنها أسس التأويل التقابلي.
إن المتتبع لهذا المنظور الجديد سيكتشف لا محالة قدرة هذه النظرية في دراسة النصوص وفهمها، وكيف تمكنه من بناء المعنى أو المعاني، وتجعل من تأويله تأويلا بليغا دون أن يحيد به عن الطريق الجاد، لذلك قمنا بتطبيق هذا التصور على نص أدبي، همنا الوحيد هو المساهمة في موضوع تدريس الأدب.
وعلى هذا الأساس، فإن نظرية التأويل التقابلي تجعل التلميذ\القارىء يتذوق النصوص والخطابات، يفهمها فهما مبنيا على أسس واضحة، فيتذوق جملها ومعانيها، يتلذذ بتراكيبها وأصواتها، لأنها تحقق المتعة والفائدة، متعة القراءة، وفائدة المعنى.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: