في اليوم العالمي للغة العربية: الواقع المزري والحلول المقترحة

في اليوم العالمي للغة العربية: الواقع المزري والحلول المقترحة



محمود عبد الغني 18 ديسمبر 2016

يسود في المغرب، وفي باقي الدول العربية، نقاشٌ متشعبٌ حول مكانة اللغة العربية داخل المجتمعات العربية، ودورها في تنمية مدارك الفرد، وتطوير العلم، وإبراز خصائص الهوية العربية، بما يعني ذلك من إنتاج وإبداع وتفكير. وقد خاض في هذا النقاش العديد من المفكرين والأحزاب والمؤسسات والفئات التي رأت، بهذا الشكل أو ذاك، أنها معنية بهذا النقاش اللغوي، والذي لم تهدأ حروبه ونعراته منذ استقلال المغرب إلى اليوم. والنتيجة تبقى ان اللغة العربية تفرّق دمُها بين القبائل؛ فالمثقف العربي المتنور، كعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد بنيس وبنسالم حميش وآخرين خاضوا معركة واجهوا فيها المدّ الفرانكفوني الذي يسعى إلى ارتكاب "مجزرة لغوية" في حق العربية. وسعيهم في ذلك إنتاج فكر قوي وأدب جميل بهذه اللغة. الأمازيغيون بدورهم خرجوا في الآونة الأخيرة، ودون مشروع يُذكر، واضعين يدهم في يد التيار الفرانكفوني، من أجل إحلال الدارجة موضع العربية في التعليم والتداول والبحث. أما الدولة فتكتفي فقط بسن المراسيم والقوانين التي تضمّ جملًا ضئيلة من قبيل: "العربية هي اللغة الرسمية للبلاد"، تاركة هذه "العربية" تتدبّر نجاتها، وترسم مصيرها. من أجل توضيح الصورة أكثر اتصلنا ببعض المعنيين بهذا النقاش، وجلهم دبّج مقالات ودراسات، أو وضع كتباً، أو أبدع بهذه اللغة ذات التاريخ الحضاري العريق.    
تأهيل العربية أم تأهيل المشروع الحضاري؟ 
ينطلق السيميائي المغربي الدكتور سعيد بنكراد من مسلّمة فكرية ولغوية يرى من خلالها أن تأهيل اللغة العربية هو تأهيل لمشروع حضاري ضخم ومتشعّب. ومن المنطلق النظري نفسه، وهو منطلق لغوي فلسفي، يرى أن الإنسان هو اللغة، فمجموع ما يشكل كينونته يودع في ممكناتها وقدرتها على انتشاله من طبيعة صامتة وإيداعه داخل ثقافة هي وحدها الدليل على وجوده الدلالي في الكون. وهو ما يعني أن العوالم التي لا تغطيها اللغة موحشة وعارية لن يستوعبها الوعي ولن يصنفها ضمن ممتلكات الوجدان. "إنها بذلك ليست أداة يمكن التخلص منها بعد استعمالها، كما نفعل ذلك مع كل الأدوات، بل هي الواجهة المركزية التي تحضر من خلالها الذات في عينها وعين الآخر".
ومع ذلك، يضيف بنكراد، فإن للُّغة وظائف أخرى غير الوصف والتسمية والتعيين، لعل أهمّها قدرتها على بلورة سجلات مضافة داخلها هي التي تفصل النفعي في وجود الإنسان عن نشاطه المعرفي بكل واجهاته التقنية والأدبية والفلسفية. فتلك "لغات" لا يتداولها العامة من الناس، وإنما هي شكل من أشكال حضور الأمة في الحضارة الإنسانية. وتلك خاصية مشتركة بين كل اللُّغات، فما يحتاجه الناس في تدبير شأنهم اليومي محدود، أما ممكنات اللُّغة في حقول المعرفة فلا حدّ له.
اللُّغة حسب السيميائي المغربي تكبر وتتطور من خلال قدرتها على هضم المنجز الفكري المعاصر وفق طاقتها في التقطيع وإعادة صياغة الكون من خلال مَفْهمة تنمو مع نمو الحاجات الإنسانية وتنوعها. فالمعرفة ليست كَمَّاً مفصولاً عن اللغة، بل هي سيرورة فكرية تتمُّ داخلها، وتكون موجّهة نحو غاية هي محاولة مثلى لوصف علمي لما لا يرى الناس فيه سوى وجه وظيفي في حياتهم.
 وليبيّن الإمكانيات التاريخية لهذه اللغة العريقة خلُص إلى أن اللغة العربية لم تكن يوماً خارج هذه الدينامية في جوهرها التصنيفي. إنها ليست كلمات بلا ذاكرة عدا ذاكرة التعيين فيها، ولم تكن وعاء يستوعب المعطى الطبيعي ويُعيد إنتاجه في سلوك يدبر معيشاً مكروراً. لقد كانت سبّاقة إلى إنشاء المعاجم والقواميس المتخصصة، وهي"مفاتيح العلوم"، وهي التي مكّنت مستعمليها في الحاضر من مواكبة الكثير من العلوم دون حرج.
وليقارن العربية بلغات أخرى، الإنكليزية مثلاً، أضاف بنكراد أن العربية ليست في حاجة إلى تأهيل ذاتي، فكل اللغات تؤهل نفسها بالممارسة المباشرة لهذه الحقول، بل هي في حاجة إلى مشروع حضاري يحتضنها باعتبارها أداة تحققه. فقد تكون الإنكليزية هي اللغة العالمية حالياً في العلم، وهذا أمر مؤكد، ولكن هذه الحقيقة لم تقُدْ شعوب العالم إلى التخلُّص من لغاتها وتبنّي الإنكليزية وحدها. لقد وضعوا الإنكليزية في خدمة تراثهم اللّساني بكل واجهاته الحديثة، وتلك هي "الأصالة" التي تنمو في المنجز الحضاري المعاصر لا خارجه.
ضرورة إيجاد لغة علمية عربية مشتركة
 ويؤكد الناقد الأدبي الدكتور عبد الفتاح الحجُمري، مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط، أن  أجمل احتفال باللغة العربية وأكرمَ خدمة تقدم لها في هذا اليوم هما تجديد التزامنا بحمايتها والنهوض بها واحترام الثقافة والقيم والهوية التي تعبّر عنها، والعمل على الإكثار من استعمالها في الميدان التربوي والتعليمي.
 لذلك، يضيف الحجمري، لا حاجة للتذكير مرة أخرى أن عوائق التنمية التي تواجهها الدول العربية تجد صداها ضمن الرهانات الثقافية، خاصة ما تعلّق منها باختيارات تعميم التربية والتعليم ومحاربة الأمية وتصوّر سياسة لغوية متجانسة مع خطط التكوين والبحث العلمي، باقتناع وإرادة؛ لأن تجاوز عوائق التنمية والدخول إليها يتمّ من خلال/ وعبر اللغة. من هنا أيضاً أهمية التفكير في إيجاد منهجية موحّدة قادرة على مواكبة التحوّلات العلمية التي يستتبعها مجتمع المعرفة، لكي لا تظل اللغة العربية متأخرة في المواكبة والاستعمال، وتكون بالتالي معاصرة فاعلة ومنفعلة مع مكاسب العصر. وتلك سمة من سمات البحث العلمي، بما هو فضاء ثقافي يتميز بوتيرة معرفية سريعة للتقدم العلمي على صعيد العلوم الإنسانية والتقانية، وتشعب هذه العلوم وتفرعها إلى تخصصات تتطلب الإلمام والاستيعاب الآنيين للمصطلحات الوليدة.
  من هنا، يرى مدير مكتب تنسيق التعريب، ضرورة إيجاد «لغة علمية عربية مشتركة» لا تكمن وظيفتها في تقريب المعارف والمدارك بإيجاد المقابلات العربية للمصطلحات الأجنبية فقط، بل تكمن أيضاً في إنتاج المعرفة وتيسير سبل تداولها. لقد أثبتت الأبحاث اللسانية المعاصرة أن الولوج إلى عالم المعرفة ليس حكراً على لغة دون أخرى، وأن تحصيل المعارف لا يكون فقط بلغة عالمية مقابل لغات وطنية ومحلية غير ممتلكة قدرة الانخراط في قيم العصر. لأجل ذلك، يستخلص، لن يكون التخطيط اللغوي العربي ناجعاً ما لم يكن مصحوباً بسياسة لغوية فاعلة وقادرة على تلبية حاجيات التنمية الوطنية وترسيم استعمال اللغة العربية في التربية والإعلام والإدارة وشتى مرافق أجهزة الدولة. 
أكثر من انقسام داخلي
تعيشُ اللغة العربية اليوم مفارقة كونها رابع أكبر لغة حية في العالم، ما يفترضُ أن تكون آمنة ومستقرة. ولكنها، وفي الآن نفسه، تعيشُ أكثر من انقسام داخلي، هكذا يقدم المترجم والباحث المغربي الدكتور محمد أسليم توصيفه للغة العربية اليوم، هو الذي ألّّف وترجم العديد من الأبحاث والدراسات حول الأدب الرقمي. فالعربية ليست لغة تواصل يومي لأية جماعة في الوطن العربي، إذ يتواصل أفراد كل قطر عربي فيما بينهم بلهجاتهم العربية المحلية، فيما يستخدم الأكاديميون والمثقفون والمبدعون العربية الفصحى لكتابة أعمالهم وإلقاء دروسهم ومحاضراتهم، بمعنى أنّ لغة الضاد منقسمة إلى عربية فُصحى، وعربية دارجة.
ويضيف صاحب مؤلف "الادب الرقمي" أن لغة الأدب العربي القديم والمصنفات العربية القديمة في كافة فروع العلم والمعرفة، تمَّ تحديد قواعدها النحوية ومعجمها وبلاغتها منذ عصر التدوين، بذلك فهي تشكل نسقاً متكاملاً، يشتغل بدون مشاكل تُذكر، ولكن لغة الصحافة ووسائل الإعلام الحديثة والأدب العربي الحديث والمعاصر تبتعد تدريجياً عن اللغة الآنفة، على مستوى المعجم كما على مستوى بعض التراكيب، مما يجعل تلقي النصوص القديمة يقتضي أحياناً ترجمتها إلى العربية الشائعة اليوم. ومعنى ذلك أنَّ العربية منقسمة إلى كلاسيكية وعصرية.
كان الانقسام الأخير، حسب أسليم، من نتائج ظهور المطبعة ووسائل الإعلام الحديثة، وأفضى عموماً إلى موقفين متعارضين: أحدهما يتمسك بالاستعمالات القديمة ويُدرجُ العديد من التعابير الرائجة في العربية العصرية ضمن الأخطاء والانحرافات اللغوية، وآخر يرى ضرورة تطوير المعجم وقواعد النحو العربيين بحيثُ يحتضنان الاستخدامات الحديثة. ولكن أياً من الموقفين لم يحل المشكلة على أرض الواقع.
وفي موضوع التقنيات واللغة العربية، أشار أسليم أنه بظهور شبكة الأنترنت، تحرَّر النشر من حواجز النشر الورقي، فوجدتْ العربية بكافة مكوناتها الآنفة طريقها إلى النشر، ابتداء من الرسائل النصية، مروراً بالدّردشة والمناقشة، ووصولاً إلى الإنتاج الفكري والإبداعي، ما أفضى إلى بلبلة حقيقية داخل اللغة العربية، إذ تفرعت إلى عربيات مُدَوَّنَة بعدد مجموعات مستخدميها. بيدَ أنَّ ما يُلفتُ الانتباه هو هذا التماسّ بين اللهجات العربية والعربية الفصحى الذي أصبح واقعاً، إذ ظهرت منابر رقمية إخبارية تنشر الأخبار والتحليلات بالعربية الدّارجة، وتزايد عدد الروايات التي تُكتَبُ بالعامية، وتُنشر في مدونات ومنتديات، ومواقع إخبارية، ما يحمل على التساؤل عمَّا إذا كان مصير العربية سيكون مماثلاً لمصير اللاتينية ما لم تتخذ تدابير لمنع ذلك من الحدوث.                           
اللغة العربية تُكتسب بنماذج الخطاب لا بالقواعد 
وفي مجال اختصاصه: تعليم العربية والمساعدة على اكتسابها، أكد الدكتور المتخصص محمد بازي أن الدعوة إلى اكتساب اللغة بالنماذج اللغوية والاطلاع على البنيات الفصيحة هي خلاصة تجربة علمية وعملية عريضة في تعلم هذه اللغة العظيمة وتعليمها، وأصدق الحقائق ما قام على الملاحظة والتجربة، ثم التجريب على مستويات أوسع، وقد حان الوقت لبسط هذا التصور عسى أن يقتنع أهل الاختصاص بتغيير نموذج النقل الديداكتيكي لدرس النحو في المناهج والبرامج التعليمية الخاصة باللغة العربية بالبلاد العربية، وتبعاً لذلك سيتخذ تعليم هذه اللغة وتعلمها منحى مُيَسَّراً قائماً على الذوق ولذة التحصيل.
 وفي هذا السياق قال إن الوقت قد حان إلى الدعوة إلى:
أ‌-      تكوين المدرسين في موضوع اكتساب اللغة تكويناً معرفياً ونقدياً وتربوياً، والتركيز على ذلك في عُدّة التكوين ومحاوره.
    ب- يكتسب المتعلمون اللغة بمساعدة مدرس ناطق بهذه اللغة، يثري كل يوم معجمهم بكلمات وعبارات وأساليب جديدة، ولا يتحصل له ذلك إلا إذا كان قارئاً جيداً للمتون الأدبية قديمة وحديثة.
   ج-تُكتسب اللغة بأدوات ناجعة مشوقة مما نراه حاصلاً في بعض المدارس الخاصة، وفي تدريس اللغات الأجنبية للصغار (وبالأخص كتب تعليم اللغة الإنكليزية) فلنتأمل المؤلفات السائرة في هذا الاتجاه، ونحتذي حذو التجارب الناجحة.
    د- تكتسب اللغة بتعويد المتعلمين على الحفظ والترديد: حفظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية القصيرة لبلاغتها، والأناشيد، والشعر، والأمثال، والطرائف، والمسرحيات، والمقتطفات النثرية...
    ه-جعل عادة المطالعة من الأولويات التربوية عبر التشجيع والتنويه بحامل الكتاب وقارئه وملخصه.
   و-توجيه الأطفال إلى المسموعات الراقية في الأدب والشعر والمسلسلات التاريخية الراقية التي تغذي الذوق السليم، تُعَلِّم التاريخ وتُعَوِّد السمع على النسق العربي الفصيح، وهي مسموعات موجودة بكثرة على القنوات وشبكة الإنترنت (مسلسلات الشخصيات الدينية والأدبية والتاريخية والعلمية...).مقابل ذلك نعمل على تجنيب الأطفال المسلسلات المترجمة التجارية خاصة، التي تفسد الأخلاق والأذواق ولا تبنيها، ومسؤولية وزارة الإعلام والدولة كبيرة وخطيرة في هذا الجانب. وكما قال ابن خلدون "السمع أبو الملكات اللسانية".
الأمازيغية والدارجة والفرنسية 
وأشار أستاذ الأدب الحديث بجامعة المولى إسماعيل، الأستاذ عبد العالي بوطيب إلى أن الحديث عن واقع اللغة العربية بالمغرب، كما في باقي اللدول العربية الأخرى، لا يستقيم دون استحضار مجموعة من العوائق التي تحول دون إحلال هذه اللغة مكانتها الطبيعية المُستحقّة، في سُلّم تراتبية اللغات المتداولة بالمغرب، مثلاً، باعتبارها لغة البلاد الرسمية الأولى، ولغة ديانتها الإسلامية. وفي مقدمتها المنافسة الشرسة التي تخوضها هذه اللغة مع لغات ولهجات أخرى عديدة، بعضها داخلية محلية، كالأمازيغيات، وبعضها خارجية أجنبية، كالفرنسية بالدرجة الأولى، دون حماية قانونية رسمية تساعدها على بسط نفوذها في مجال التداول الوطني، بدليل استمرار حضور لغات أجنبية، والفرنسية تحديداً، في أجهزة الدولة والإدارة والمجتمع، من ناحية، فضلاً عن الهيمنة المطلقة للغة الأمازيغية واللهجة المغربية، على مجال التداول اليومي لفئات عريضة من الشعب المغربي، من جهة ثانية. مما يجعل حضور اللغة العربية مقتصراً، في أحسن الأحوال، على بعض الحصص الدراسية والجامعية فقط، لدرجة يتعذر معها إحلالها المكانة اللائقة بها في مجتمع يدعي دستورياً أن العربية لغته الرسمية، ليبقى الواقع غير ذلك تماماً. وبذلك يتأكد بالملموس أن دسترة لغة ما لا تكفي وحدها لجعلها لغة رسمية فعلياً للمجتمع ما لم تصاحب ذلك إجراءات عملية وقانونية أخرى تبلور هذا الأمر على أرض الواقع

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: