التأويلية التقابلية

المسارُ المسْلوكُ والأفق المنْتَظَر




محمد بازي /

تقديم  

             نحاول في هذا المقال المختصر تقريب تأويلية التقابل من القارئ العربي، من داخل نسقٍ معرفي جديدٍ مُكَمِّلٍ للذي حصل فيه نسج طِرازِها النظري ومنوالها الإجرائي. وبإمكانِ الباحث المختص أن يقف على نِتاج التطورات المعرفية لهذا المقترح المعرفي والتأويلي في ثلاثة كتب سابقة: "نظرية التأويل التقابلي: مقدمات لمعرفة بديلة بالنص والخطاب"[1]، و"البُنى التقابلية: خرائط جديدة لتحليل الخطاب"[2]، و"تقابلات النص  وبلاغة الخطاب"[3]، وهي تُقَدِّم صورة كاملة عن التطور الذي عرفه هذا النموذج التأويلي، وفيه تأكيد لما  ندعو إليه من بناء مشاريع معرفية تقوم على استثمار نقط القوة في تراثنا البلاغي من منظورات تجديدية تستأنس بما فيه، وتعمل على اصطناع نماذج حداثية.

             تقدم الفقرات التي تلي بعض مَعالِمِ تأويلية التقابل ومُوجِّهاتِها وأَسْئِلَتِها وقلقها وقَلَاقِلها وآفاقها[4]، على سبيل التذكير والتعريف من أجل مزيد من التأمل والمساءلة المعرفية المعمقة، مؤمنين أن الحقائق المعرفية هي الناشئة بفعل الصقل والتأمل ومداومة النظر، وأكثرها قوة ما آمن به المجتهد، واقتنع بحقيقته، ودعمته التجربة والأمثلة، وانسجمت فيه المقدمات مع النتائج، واتضحت الأدوات والمسارات، وظهرت الثمرات.

أولا : تواجُه الأحوال

دفعتنا أسئلة التأويلية العربية والإسلامية، إلى فحص مفهوم "التقابل" الذي اعتبرته البلاغة القديمة من التحسينيات القولية، لكن نظريتنا التأويلية تعده من الأسس الذهنية العميقة المؤسِّسَة للخطاب، ثم بعد ذلك من المداخل الكبرى لتأويله، وقد اكتملت بعد محطات تجريبية كثيرة صورته داخل نسق سميناه "النموذج التقابلي"، تتعلق به مفاهيم وصفية كافية، وتسنده منهجية واضحة في العمل قابلة للتطوير والحوار والمساءلة. ونحسب أن مثل هذا المنجز سيفتح باب الاجتهاد لاقتراح أنوال تأويلية أو بلاغية جديدة تؤمن بالتطوير والتجاوز، لا حصر الجهد في اللوم والبكاء على الأطلال البلاغية.

      تنطلق فلسفة التأويلية التقابلية من التواجه المؤتِلف أو المختلِف الذي هو قوام الحياة المادية والمعنوية التي تحيط بنا، حيث يتحرك الناس داخل هذه التواجهات دون أن يعيروها اهتماما، رغم أن حيواتِهم تنتظم بها في سائر الأحوال والمقامات ائتلافا واختلافا، صراعا وتفاهما، من الميلاد إلى الممات. ولأن الإنسان مَدْعُوٌّ إلى تَدَبُّر أسرار الكون المحيط به، والتساؤل عن سر بدائع نظامه، فإنه يحرك تلقائيا البُنى الذهنية المتواجهة / المتقابلة لمعرفة الشَّيءِ بسببه أو نتيجته، بأوَّلِه أو آخره، بظاهره أو كينونَتِه، بحقيقته أو زَيْفِه.

       في القرآن الكريم آيات تَسْنُد أطروحةَ التقابلية في أبعادها التناظرية، والتناقضية، الكلية والجزئية، وغيرها من العلاقات والإمكانيات. قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ[5]. هذا الخطاب ُوجه زمن الدعوة المحمدية إلى أمة غير مُدرِكة لخفايا الكون مثلما يسمح لنا اليوم العلم بإدراكه، كما أن ما لم يدركه العلم  إلى الآن يظل مما لا نعلم، إلى أن يُراد له الانكشاف؛ فالأزواج المتقابلة من الحقائق البيِّنة في الحياة مما يعرفه عموم الناس، ومنها ما يعلمه العلماء في كل تخصص علمي دقيق. و(مما لا يعلمون) أي مما لا يُدركون على وجه التفصيل[6]، ومما خفي عنهم من أسرار الزوجية، وهي معرفة لا تُتاح للناس بوجه واحد على تفاوت الأزمنة، بل منها ما يظل سرا يعلمه الله تعالى وحده. الزوجية يدركها الجميع، ولكن التفاوت حاصل في الكيفيات والعلاقات والتفصيلات، وفي الآية استدلال على انفراد الله تعالى بالخلق، وأنه لا ينبغي أن يُشْرَك به[7]، وفيها  بيان لحقيقة الزوجية في المعلومات من حقائق النبات والإنسان، وفي ما لا نعلم.

       تؤكد الآية الكريمة على التواجهات الثنائية التي عليها المخلوقات، أما وحدانيةُ الله تعالى وعظمتُه وقدرتُه في خَلْقه فلا شك فيها. وتؤكد هذه الزوجية في المخلوقات آيات أخرى. قال تعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[8] . وقال تعالى: ﴿ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [9]. وحتى لا يظل التقابل محصورا في المنحى الثنائي كما دأبت على ذلك الدراسات الجدلية والسِّميائية والبنيوية، فقد وسَّعْناه ليشمل الأبعاد الثلاثية والرباعية والخماسية... بين العناصر والمكونات المُدركَة وَفْق أيِّ علاقةٍ يحددها موقع الدارس الخبير أو المؤَوِّل البليغ.

       في تركيب مكونات الطبيعة عناصر متقابلة يعرفها أهل العلم، وهي تُدرك في مجال الفهم والتأويل بالتصور المضبوط والواضح المقدَّم للتقابل باعتباره جعل عناصر الكون، أو أكوان الخطاب -موضوع الملاحظة والتأمل- متواجِهةً(وجها لوجه) بأي علاقة ممكنة؛ ولا يعني التقابلُ التضادَ أو التناقضَ كما قد ينصرف إلى ذلك الفهم الأولي. ثم إن عدم العلم بذلك، أو العجز عن إدراكه لا يعني أنه غير متقابل بوجوه التقابل الممكنة وفق علاقات محتملة، مثل: التضمن، أو الجزئية أو الكلية أو التكاملية، أو الضدية أو الشَّبَهية، أو التباينات اللَّونية والعددية والاتجاهية..مما توصل إليه العلم، أو مما هو قابل للإدراك والتأويل؛ فالذي يستعمل أداة تصوير بالأبيض والأسود سيرى ما صوَّر باللونين فحسب، وينبغي أن لا يطلب أكثر من ذلك، والذي يعتمد مُصَوِّرةً بالألوان سيرى ما صوَّر مُلَوَّنا، ولا يطلب غير ذلك. والذي يستعمل كاميرا ترصد الحركة سيراه متحركا، والذي يرصد التقابلات الشكلية واللونية والعددية سيدرك ما عَلِمَه منه على ذلك النحو متى أدركه وعَلِمَه.

        وعندما نعود إلى ذواتنا نجد أن كُلاًّ مِنَّا يعيش تَواجهات كثيرة بينه وبين الآخرين، وأخرى مع نفسه، بين طمأنينته وفِتْنَتِه، بين محبة الخير وكراهة الشر، بين الجمال والقبح في نفسه وفي غيره، بين العمل والكسل، وبين العمل والأمل والأجل، بين مذاق الحنظل في كل ما يُشْقيه، ومذاق العَسل في ما يَشْفيه ...وفي خِضم كل هذه التفاعلات المتقابلة فهو يبحث عن الحقيقة، وعن المعنى، معنى وجودِه، ومعنى الحياة من قَبْلِه ومن بَعْده، ومعنى الحياة به أو بغيره، في ما يُسْعِدُه أو يُضنيه. فكيف يسعد الإنسان المؤَوِّل بمعنى وجوده عبر تَدَبُّر الكون البليغ المتقابل؟

 

ثانيا : من  تقابل الأَحوال إلى تَقابُل الأَقْوال

       تتحول البُنى الكونية والوجودية المتقابلة -تقابل الماديات في الكون المادي وتقابل المعنويات في الكون المعنوي- إلى بُنى ذِهْنية وتمثُّلية، ثم إلى بُنى لُغوية تنتظم في خِطاباتنا وفق المقاصد والغايات والحالات والتحولات. ولأن التحليل التقابلي للخطاب بإمكانه أن يوقِفَنا على الخطاطات الذهنية الأولية المفترضة التي تحولت إلى رموز، وحروف، وكلماتٍ، وجملٍ، وفقراتٍ، وصفحاتٍ، ومؤلفات.. فإن نِتاج ما انتهى إليه الجهد والنظر في هذا الشأن، أن هناك نسقًا تقابليا نعتبره منشأَ سائر الخطابات بلا استثناء كما بيَّنا ذلك بالأمثلة القصيرة والطويلة[10]. ولما تراءى الأمر كذلك ظهرت ملامح أطروحة تقابلية تجد لها من الدعائم القوية في العلم بالنص، والبلاغة، وعلم اللغة، والفلسفة، والمنطق، والعلوم الحقة ما يجعلها حقيقة علمية تفرض نفسها على المهتمين بعلم الخطاب وعلم التأويل .

     ولأن الأمر ليس مقصودا به استنفار جيوش المقاومة النائمة لدى المتمسكين بالمناهج التقليدية، أو استحداث جبهات للتبارز النقدي من غير جدوى، فإن المقابلَ المأمول هو المحاورة، والمساءلة المعرفية التي تنمي التأويلية التقابلية وتغنيها علميا ونظريا وتطبيقيا، أو تقيم مشاريعَ مشابهةً، أو موازيةً، أو مجاوِرَةً، أو مجاوِزَة. 

 

ثالثا : مُخاتَلات المعنى

        التقابلية من الاجتهادات التأويلية الجديدة التي تقترح استراتيجية واضحة لفهم النصوص والخطابات وتحليلها، بناء على فرضيات، واعتمادا على تحققات، وعلى استدلالات نصية وعلمية وواقعية. وكما أن أسرار المهن لا تظهر إلا للخبراء بها، فكذلك الأمر في سائر المناهج وأدوات التحليل. غير أن بعض الباحثين يتسرعون في فهم المقاربة التقابلية في أبعادها الثنائية والثلاثية وما فوق ذلك... ثم يبادرون إلى تطبيقها على النصوص ظانين أن التقابلية قادرة - من غير موقع خبير- على حل مشكلات الفهم؛ فلا بُدَّ من كفاياتٍ تأويليةٍ لدى المؤَوِّل، ومن خبرة بالفهم وإجراءاته ومخاتلاتِه وزوغانِه وتمنعه، ومن معاودة وتكرير. ويجد المهتم بهذا تفصيلاتٍ وتدقيقاتٍ لمسارات منهاجية التقابل في كتاب "البنى التقابلية"[11]، وفيه بيان لأدوار القارئ ومحلل الخطاب في الاشتغال التأويلي.

       التقابلية منهاجية لا يعني الفشل في العمل بها أنها فاشلة؛ فالسيارة من غير سائق مُدَرَّب مَرْكبَة للمخاطرة، وآلة الخياطة من غير محترِف أو محترِفَة عذابٌ للأصابع، والهاتف الذكي بدون استعمال مضبوط يؤدي إلى خسارات مادية أو معنوية فادحة في مستنقعات الخطاب، والحاسوب أداة للمعرفة والتواصل واكتشاف الخير والشر الموجود في العالم، فالعاقل يستعمله في ما يفيد، والجاهل بالإبحار يتبع الموج حيثما أزْبَدَ له أو عليه.

رابعا : التقابلية خيار منهاجي

  المنظور التأويلي التقابلي خيار منهاجي إلى جانب خيارات منهجية كثيرة، على المؤَول أو محلل الخطاب أن لا يلقي بنفسه في مائها قبل المساءلة والتريث، وتقدير العواقب، والنظر في حدود الفعالية والنجاعة؛ فإذا أحضر الرجل إلى بيته عامل كهرباء أو رَصَّاصا وهو غير محتاج لخبرتهما، وُصِف بالبلاهة وسوء التدبير، وربما تم التشكيك في قدرته على التمييز . فلماذا لا يحصل مثل هذا في مجال العمل بالمناهج والمقاربات التحليلية؟!

       ربما لأن الخسارات لا يتحمل تكلُفَتَها أحد، وإنما تظهر آثارها في ما يعيشه الواقع النقدي. إن تحصين هذا المجال من أدوار نقد النقد، والنقد المعرفي للنظريات والمناهج، فمن يقوم بهذا؟! وأين هو دور الجامعات ومختبرات البحث العلمي التي نسمع عنها، وَوَفْق أي استراتيجية وأي منهج يمكن تحقيق هذا المطمح؟!

الأمر الآخر الذي ينبغي بيانه هو أن قارئ التقابلية، وما تتضمنه من تطبيقات على النصوص، قد لا يتحقق لديه الضبط المنهجي الكافي أول الأمر، ولا تحريك الأدوات كما ينبغي، ولا تحصيل المتعة المنتظَرَة بالعبور من تقابلات منطلق، إلى تقابلات هدف، عبر تقابلات جِسْرية إلا بتلقي تجربة مباشرة ممن يُحْسِن هذا، وقد جربنا تقديم قراءات تقابلية لفئات متباينة فحصل لديها تلذذ كبير بطريقة الوصول إلى المعنى. إن تحصيل العلوم يقوم على تمهير مدرسي الأدب بكيفيات بناء المعنى؛ فلا تُكتسب المقاربات بمجرد قراءة عابرة وحيدة وسريعة في كتاب وبلا مساعد، وكأن كل مدرسي الأدب مُلِمُّون بعقبات الفهم والتأويل، وما يقتضيه ذلك من استعداد وخبرة ودُربة ومناورات تأويلية عريضة.

خامسا : التقابلية منظار وراءه إنسان

   قدمنا في وقت سابق بعض الملاحظات عن  القارئ المثالي عند" إيزر"، والقارئ النموذجي عند "إيكو"، وغيرهما من أنماط القراء في نظريات التلقي والتأويل، واقترحنا مفهوم القارئ البليغ الذي لا يعتمد بالضرورة التقابلات مِنهاجا ومنوالا، وإنما -كما بيَّنا في التأويلية العربية- هو "قارئ ذو كفاية افتراضية وتصورية، ومتتبِّع لعلامات النص ورموزه وجمله، وذو كفاية موسوعية تُمكنه من إشباع الدلالة، وذو كفاية استدلالية على مقبولية المعاني المبنية، وذو كفاية تنسيقية تُمكنه من تجميع أفهامه في خطاب تأويلي منسجم ومتسق "[12]. هذا القارئ موجود ومتحقق في كثير من خطابات التأويل المُدَوّنة، وهو الذي حرصتْ علوم القرآن والتفسير على تحديد ملامحه، وضبط شروط عمله، بل تحقَّقَ فعليا في كثير من التفاسير العالمة عند الزمخشري والرازي والقرطبي وابن كثير والقاسمي وابن عاشور، وفي نماذج أخرى من النقد الأدبي، والشروح الشعرية القديمة والحديثة. وكما تحقق بتلك المعايير التي ذكرها أهل الاختصاص في مصنفاتهم، فهو يتحقق بمنوالية التقابل؛ لأن التقابلية تشترط بدورها الكفايات العليا المذكورة التي تستند إلى نتاج العلوم النحوية واللغوية والبلاغية والتاريخية.

     بقي أن نبين أن منوال التقابل قد ينطلق أحيانا من معان بيِّنة، ليس لبيان المعنى لأنه في غير حاجة إلى بيان، وإنما لبيان شكل صناعة المعنى وتقسيمه إلى جزئيات وعلاقات، وبيان مجاريه في باب النظم والأسلوب، والوقوف على أسرار الجمال فيه. فإذا حصل أن المؤَوِّل لم ينجح في الوصول إليه؛ فإن القفل أحيانا يَعْسُر أن يُفتَح لصاحب البيت ومعه المفتاح، فيلجأ إلى كسر القفل. في نهاية المطاف تكون الخسارة كسْرَ القفل واستبدالَ المفتاح، وربما استبدال الباب لا الشارع بأكمله.

    التقابلية منظار، وبدون ناظر قاصد، وعقل عالم وبليغ يظل زجاجة عجماء؛ مثل آلة تصوير فهي في يد الفنان الخبير تصنع الجمال في الصورة، وفي يد غيره مجرد عبء، وآلة صمَّاء للتباهي تتلاعب على صدر حاملها، يُخشى عليها من التَّكسُّر حتى يبلغ كتابُ انكسارِها أجَله.

سادسا : النص المُطاوِع

        هل يحدث في مجال النقد الأدبي وعلم التأويل تدريب القراء والمحللين على المناهج كما يُدَرَّب الطيار مثلا على قيادة طائرته؛ فيُبَصَّر بمخاطر مهنته ويُدَرَّس العلومَ المتعلقة بها؟!

       لا شك أننا نستهين كثيرا بالتحليق فوق النصوص لمجرد الرغبة في ذلك، وأحيانا نفعل بطائرة من دون طيار، فلا نُقَدِّر العواقب التي تنشأ عن عدم الدِّراية بمخاطر التعلق بالفهم والتأويل بأجنحة ضعيفة تمزقها الرياح بسرعة، لعدم تحصيل العلوم الضرورية اللغوية والبلاغية والصرفية والنحوية والسياقية والجمالية الضرورية للاشتغال بمهام التأويل.

         لذلك فإن التأويلية التقابلية مِنوال منهاجي يقوم على كفايات عليا ضرورية تحقق ما سميناه بلاغة التأويل، وقد ذكرنا في أعمال سابقة الشروط التي تتحقق بها تلك البلاغة[13].إن المناهج متعددة وأدوات المقاربة كثيرة، وهي متاحة للباحث المتأني الذي يبحث عن المنهج الذي يناسب موضوعه ( نص/ نصوص الاشتغال)، والأمر شبيه بمن عنده نوع زراعة في نوع خاص من الحقول، وربما في مكان ضيق، فهو لا يأتي بأي آلة فلاحية للزراعة أو الحصاد كيفما اتفق، وإنما يراعي حاجياته وما يناسب الوضع الذي عليه حقله، حتى يكون ما يقوم به مقبولا وناجعا، فيتفادى الخسارات المحتملة، ونظرات الناس المتشككة...

         في الحقل النقدي لا يَعبأ أحد بمثل هذه الحسابات، ولا بالخسارات والمآزق الحقيقية القائمة، فنجد تجريب بعض المناهج على نصوص لا تُطاوعُ، ونجد تعسفا في استعمال المنظورات والمقاربات أحيانا، مثلما هو الأمر في استعمال السِّمْيائِيات المناسبة للنصوص السردية على النصوص الشعرية، أو إقحام المنهج الاجتماعي في مقاربة نص يَحسُن فيه استثمار الأسلوبية أو المنهج النفسي. يحدث هذا كثيرا بدافع من تحقيق وجود سياسي مأمول، أو الدفاع عن تصور اجتماعي أو ذاتي عبر الأدب، أو في إطار اجتهاد نقدي لا علاقة له بكل ذلك...  

       ولأن هذه الخسارات لا يتعدى أثرُها الورقَ والمدادَ عادةً، وربما قراء ينسحبون من مجال الدراسة النقدية في صمت وذهول، فإن التساهل في هذا، والتسامح في الحد الأدنى من الكفايات التأويلية، ومن تحصيل العلوم الضرورية، ومن المناعة الإبستيمية، والتشاور والإنصات إلى الآخر - قبل الإقدام على تدمير النصوص بالمقاربات - هو ما أدى إلى الوضع الهش والفوضوي الذي عليه درس النقد العربي اليوم، فَقُتِل الأدب بالتجريب والتخريب الاستدلالي، وجبروت الاستعمال المتعسف، أو الافتقار لعلوم الآلة أو غير ذلك. 

    وتأسيسا على ذلك، فإن المقاربة بالتقابل ليست إلا أداة من أدوات فهم النصوص وتحليل الخطابات، فإذا كان الذي يمسك البندقية لا خبرة له بالتصويب والتهديف، ولا يملك الشجاعة الكافية للضغط على الزِّناد في لحظة الحسم، فسَيلوم بندقيتَه "العمياء" كلما أفْلَتَ الصيد، إذا كان فعلا قد رأى صيدا . والغريب أن هذا النمط من النقد لا يُوجَّه بهذه الجرأة للمنهج السِّيمْيائي –مثلا -الذي له بعض النجاعة في تحليل النص السردي، مع دوران متكرر في ترسيمات نمطية جافة تُحوِّل البنى السردية أحيانا إلى خطاطات عجماء، أو يوجه للمناهج الأخرى ذات البعد التحليلي الواحد: اجتماعي أو نفسي أو بنيوي، ولم يُقل مثل هذا للذين يطبقون هذه المناهج بحرفية وبتبعية سافرة.

         هكذا، في الوقت الذي نجد "نقاد حارتنا" ينتقدون الاجتهادات المحلية الجديدة، فإنهم لا يقومون بمثل هذا تجاه ما قدمه الغربيون إلا في حالات قليلة جدا، وكأن مقترحات غيرنا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بل تجدهم تابعين منقادين ومطبقين حرفيين لجهود غيرهم، ولَيْتَهم يفقهون أن "النضج" الذي وصلت إليه بعض النماذج التأويلية أو النقدية هو نتاج تطورات كثيرة، ساهمت فيها جهود متآزرة على امتداد سبعة عقود أو أكثر. إنهم ينظرون إلى المنتوج النهائي وكأنه نشأ كاملا متطورا، وهو ليس صالحا -لنا ولهم -إلا بمنظور ما، ولموضوع ما، ولغرض ما، وفي زمن ما...

   مقابل هذه الغارات على الأقارب دون الأباعد، تَخْفُت الاقتراحات المنهجية في النقد العربي الحديث، وتظل النظريات قليلة، والتأصيل محدود، والتوجس قوي من كل جديد، وميدان التهامس حافل عند كل تجديد. وعندما تسود التبعية والاتكالية والعماء والجمود والتقوقع، ويتم تعييب كل جديد، فمن الطبيعي أن يعرف ميدان النقد والتأويل هذا الركود، ويتزاحم ببابه كل من جاء إلى ميدان التأويلية اضطرارا لا اختيارا.

        ورغم كل هذا، لنا يقين قوي أن التأويلية التقابلية بما تقترحه من مبادئ، وإجراءات، ومسارات، ومفاهيم، ونماذج تطبيقية، سوف تحرك هذا الماء الراكد، لأنها تنطلق من مبادئ ذات بُعْد كوني مستخلَصة من علوم شتى، ثم حصل توسيع مجال عملها وتطعيمها برؤيا التقابل، ومنظور التساند المستفاد من التأويليات القرآنية والبلاغة الجديدة. 

       لذلك، لا بد من إزالة هذه الحُجُب المعرفية والمنهجية الكثيفة التي تتحكم في الدارسين والنقاد ومستعيري النماذج الجاهزة، وتكييف المقترحات الغربية مع الحاجيات المحلية، وإنجاز تكوين تتبعي عن قرب لمدرسي الأدب، وعدم تقييد تدريس النصوص بامتحانات وشهادات ومطالب محددة تجعل تدريس الأدب عملا تقنيا جافا. فضلا عن أهمية استعادة الهُوية قبل كل شيء، والإيمان بقوة العقل التأويلي الإسلامي والعربي، وقدرته على الاقتراح والعطاء، وتحرير تلقي المعرفة من النظرة التقزيمية، ووزن المقترحات الجيدة بميزان الذهب، وتقديم التوصيات لتطوير ما يستحق التطوير، وإيجاد وسائل العمل المناسبة لتعميق منتوجنا المعرفي، وإبعاد المتطفلين على العلم الذين يحشرون أنفسهم في ما لا يدرون؛ لأن النظريات القابلة للحياة تحتاج إلى مناخ علمي مناسب وسليم.

سابعا: النَّص الجُثَّة

         هذه عوائق معرفية نثيرها هنا ليعلم المعنيون بصناعة التأويل قراءةً، وبحثا، وترجمةً، وتطبيقا، وتنظيرا... أننا نعمل في وضع معرفي غير صحي، وغير علمي، يحتاج رؤى مجددةً عالمةً ومنظَّمة ومترفعة عن كل ما لا جدوى من حضوره في محافل الاجتهاد التأويلي. ثم إنه ليست هناك نماذج نهائية مطلقة، والدليل انحباس النماذج النقدية في حقل الدراسات الغربية مثلا، وهي ليست إلا محطة في رحلة التطورات المنهجية والتأويلية والاختلافات الواسعة بين الاتجاهات التي تمثلها، بل في الأثر الضئيل الملحوظ في تطبيقات الدرس العربي داخل الجامعات، وفي قراءة النصوص الأدبية بالمدارس، بل أدى هذا النوع من التبعية العمياء إلى ميكانيكية عجماء في فهم تلك النصوص، حيث شرع المدرسون في قتل الأدب أمام عيون من يتابعهم من الطلبة والمتعلمين. لقد أدى التطبيق المنهجي المقترح في الكتب المدرسية إلى طغيان الآلية، وإلى اتباع خطوات منهجية مستعارة من نماذج قرائية متباينة في مرجعياتها وأدواتها، فأضحى النص الأدبي جثَّةً هامدَةً للتشريح والتجريب، بدءا من الفهم السطحي العابر إلى استخراج الحقول المعجمية والأساليب وبيان الأبعاد التداولية؛ فأصبحت المقاربات سطحيةً عابرة، تطبيقيةً تقتل الجمال في الأدب. هذه هي النتيجة الحتمية للتطبيق الحرفي وللتبعية المنهجية والفلسفية المفتقرِة إلى المحاورة النقدية، مقابل ضمور الهوية الأدبية والمنهجية في قراءة النصوص وإقرائها[14].

تركيب

        يمكن أن تتعايش النظريات في العلوم الإنسانية والنقد الأدبي ، ويمكن أن تهيمن إحداها على الأخرى في مرحلة ما. لكن العالَم لا يُسَيَّر بالنظريات فقط، إذ هي محاولات لتفسير ما يجري فيه، بناء على افتراضات، وتحققات واستنتاجات... ولا حرج عندنا أن تنشأ -بعد بَدْءِ دورة الاقتراح إذا كُتِب له أن يبدأ يوما ما- على أنقاض أطروحة التقابلية أطاريح نقيضة أو مجاوزة.

     من المفيد أن تنشأ نظريات كثيرة لتفسير ما حولنا؛ فالحقيقة نسبية في كل مجهود بشري، وما تقترحه التقابلية داخل في ذلك مثل غيره من المقترحات، ولسنا متعصبين لأمر نعتبره نظريا اجتهادا، وقد ثبت عند أهل النظر أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها، ومتى حصل ذلك؟ وأين؟! لكننا –مقابل ذلك- لا نؤمن بأن الكون تُسيره الفوضى، لأن مرجعية بعض المناهج فلسفات عبثية فوضوية وعدمية لا تناسب بلاغة مرجعيتنا الكونية المبنية على الجدوى من سائر الأفعال والأقوال والمقاصد، وعلى نظام الكون؛ وإن كان من فوضى فهي من الإنسان وعبثه وعمائه وجحوده، وعدم إيمانه بحجم مسؤوليته ورسالته الاستخلافية، وعدم تقديره أنه محاسب على كل صغيرة وكبيرة، فليست  هناك فوضى، وكل فوضى فهي عبث، والعبث لا يدوم ولا يُعَوَّل عليه، بل هو وَبالٌ على مولاه.

        لا يدعي النموذج التقابلي في التأويل أنه حقق الكمال والتمام لسعة مجال العمل، وقِلة الأعوان من الخبراء؛ فخلفياته النظرية في حاجة إلى تعزيز من جهة العلوم الحقة لبيان جهات التقابل في علم الرياضيات، وعلم الفيزياء، وعلم البيولوجيا... وفي حاجة كذلك إلى علماء بالفن لبيان الجمال القائم على التقابل- بمعناه الموسع كما ذكرنا- وأدوار التقابل الواعي وغير الواعي في ذلك، وإلى علم الهندسة لبيان قيام الأشكال الهندسية وتخطيط سائر المنتوجات العمرانية والصناعية على التقابلات والتواجهات، وأدوار المنظورات التقابلية.

         تحتاج المقاربة المقترحة بلا شك إلى دعم كل هؤلاء، فضلا عن الحاجة إلى مختبرات أكاديمية لتحقيق كل هذه الحاجيات، تنطلق من علم النفس المعرفي، والذكاء الاصطناعي وعلوم الذهن، والبلاغات الرقمية الجديدة التي ستفتح له مجالا حقيقيا للتطور والاغتناء والفعالية.


تحميل المقال بصيغة وورد

 



[1] - محمد بازي، نَظَريَّةُ التَّأْويلِ التَّقابُلي، مُقَدِّماتٌ لِمَعْرِفَةٍ بَديلَةٍ بالنَّصِّ والخِطاب، منشورات ضفاف/ بيروت، ومنشورات الاختلاف/ الجزائر، ودار الأمان/ الرباط،2013.

[2] - محمد بازي، البُنَى التَّقابُليَّة،خَرائِطُ جَديدَةٌ لتَحْليل الخِطاب، دار كنوز العلمية، عمان، الأردن، ط1، 2015.

[3] - محمد بازي، تقابلات النص وبلاغة الخطاب، نحو تأويل تقابلي، الدار العربية للعلوم، بيروت،ط1 ،2010.

 

[4] -  للتوسع انظر الكُتب المشار إليها لمعرفة الأسس الفلسفية والبناء النظري المدقق لمقترح التقابلية، إذ سنكتفي بالتذكير بالمنجز وبعض عوائق التلقي الكائنة والممكنة.

[5] -يس، 36 .

[6]- انظر ابن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون،تونس،1984، ج24، ص16.

[7] - القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، بيروت، ج15، ص26.

[8] - الذاريات، 49.

[9] -الرعد،6.

[10] -راجع: نَظَريَّةُ التَّأْويلِ التَّقابُلي،م.م.

 

[11] -م.س.

[12] - بازي محمد، التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات، الدار العربية للعلوم/ بيروت، ومنشورات الاختلاف/ الجزائر، ط1، 2010، ص158.

[13] -التأويلية العربية، م.س.

[14] - هذا من باب الاطلاع عن قرب على الطريقة الآلية العقيمة التي يجري بها إقراء النصوص في المدارس الثانوية والإعدادية وفي الجامعات.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: